استحالة هدنة طويلة الأمد بين غزة وإسرائيل
تتحدث الأخبار عن مسعى تقوده مصر وقطر وتؤيده أميركا لعقد هدنة طويلة الأمد بين غزة وإسرائيل ، ويصاحب الهدنة تحسين حياة مواطني غزة بتخفيف وطأة الحصار الإسرائيلي المضروب عليهم منذ 16 عاما . وفي المسعى إمكان إقامة ميناء في قبرص أو في البحر تفيد منها غزة في استيراد البضائع وتصديرها ، وتشرف إسرائيل عليها أمنيا . وفيه أيضا تنشيط لدور مصر في غزة ، وفتح الباب لإنهاء الانقسام الفلسطيني الذي بدأ في 2007 ، وإجراء انتخابات فلسطينية ثلاثية ، رئاسية وتشريعية ومجلس وطني . وتنفي حماس والجهاد مناقشة هذا المسعى مع المسئولين في القاهرة . ومن جانبنا نرى استحالة هذه الهدنة الطويلة لسوء نية إسرائيل فيها وتماثل مصر وقطر مع هذه النية السيئة بمشيئتهما أو على كره منهما . ودائما وأبدا كان التدخل العربي في الشأن الفلسطيني خيبة للفلسطينيين وخسارة لهم ، وخيرا وكسبا لإسرائيل . ولن يخرج التدخل الجديد عما سبقه . نبدأ بسوء نية إسرائيل . تشترط لموافقتها على الهدنة المقترحة وقف تسليح المقاومة ، وسيشمل الوقف تصنيع السلاح ، والتدريب العسكري ، وبناء المواقع ، بل قد يشمل لبس الزي العسكري .، ولا أحد يشبه إسرائيل في الإفراط في الاهتمام بالتفاصيل مهما تفهت وصغرت ، وأي وجود لمصر في غزة سيساعدها على كل هذه الأنواع من الوقف ، وستلتزم بها حرفيا مثلما تفعل في سيناء ، وهنا سيكون لدى إسرائيل من ترجع إليه عند إخلال المقاومة في غزة بهذا الشرط ، وسينشب خلاف بين مصر والمقاومة ستكون له عواقب مؤلمة عليهما . وستحرر الهدنة يد إسرائيل في الضفة والقدس تهويدا واستيطانا ، ولن يكون لدى المقاومة في غزة أي قدرة على مساعدتهما ، فتحقق إسرائيل ما عجزت عنه بمفردها في كل حروبها وجولاتها القتالية مع غزة ، أي الفصل بين ساحتي الضفة والقدس وساحة غزة . والحديث عن إنهاء الانقسام الفلسطيني ، وإجراء انتخابات ثلاثية لا واقعية فيه ولا أمل في تحققه .إسرائيل لا تريد هذا الإنهاء ، والفصل بين الضفة وغزة يناسب أهدافها في التخلص من القضية الفلسطينية بصفتها قضية أرض وشعب . وأي انتخابات ستنتهي إلى ما انتهت إليه الانتخابات السابقة من انقسام فلسطيني . فلا سماح بفوز من يعادي إسرائيل في تلك الانتخابات ، وينبذ التنسيق الأمني الذي يحمي جنودها ومستوطنيها . وأساسا لا مجال لانتخابات في ظل سيطرتها على سائر الواقع الفلسطيني . الانتخابات لا تكون إلا في وطن حر . وتعلم إسرائيل هذا ، وموافقتها مع أميركا على الانتخابات التشريعية في يناير 2006 التي فازت فيها حماس كانت بنية أن تؤدي إلى ما أدت إليه فعلا من انقسام فلسطيني ، وكانت تقديرات كل الأجهزة الإسرائيلية أن حماس ستفوز فيها . وهزلٌ سمج أن تعرض إسرائيل موافقتها ، وهو عرض قديم ، على ميناء لغزة في قبرص أو في البحر تخضع لإشرافها أمنيا . موانىء الأوطان تقام في داخلها لا في بلاد أخرى ، وتملك إسرائيل ثلاث موانىء فلسطينية مغتصبة ، حيفا وأسدود وأم الرشراش التي تسميها إيلات ، وتتفضل على الفلسطينيين بميناء مشروطة في قبرص أو في البحر تحت شباة سيفها وظلمها ومزاجها المتقلب المضطرب الذي لا أمان منه . حشرت نفسها بالقوة في الجغرافيا العربية وتريد أن تفصلها من جديد على هواها وفق ما يفيدها ويضر أهل هذه الجغرافيا . ولها هدف بعيد من تقوية علاقة مصر أمنيا بغزة ، هو التمهيد لتوسيع مساحة غزة في سيناء لتوجيه زيادتها السكانية المتسارعة بعيدا عن فلسطين ، وقد يؤدي هذا التوسيع في تقديرها إلى دولة ، فتتخلص من مطالبة الفلسطينيين بدولة جامعة لهم ، ومن آليات هذا التقدير إتباع ما يبقى من الضفة إلى الأردن . والهدف الكلي هو نجاتها من الوجود البشري الفلسطيني الذي يهدد بقاءها . تراهن على مواصلة توجه الفلسطينيين في غزة نحو سيناء ، ومواصلة توجههم في الضفة نحو الأردن ، وقد تلجأ إلى جولة قتال وعنف معهم في المنطقتين تدفع أمواجهم سريعا إلى سيناء والأردن . وعلى مصر والأردن الحذر من هذا الهدف الإسرائيلي الخطير . إنها بصفتها جزءا من الأهداف الغربية العدوانية ضد العرب والمسلمين تسير وفق خطط بعيدة المدى خطوة خطوة . ولننظر إلى مسيرتها منذ أن أقام اليهود الأوكرانيون والروس المهاجرون من مدينة أوديسا أولى مستوطناتها ، بتاح تكفا ، في 1882، لنعلم المخاطر التي تنتظرنا من مشاريعها حتى التي يبدو ظاهرها إيجابيا لنا ، وفي عمقه كل ما يخيف من هذه المخاطر . وتخلصها من فلسطينيي غزة والضفة في سيناء والأردن سيكون مؤقتا لاستهدافها المكانين واعتبارهما جزءا من إسرائيل الكبرى المستقبلية التي تسعى جادة في الوصول إليها . الهدنة في مفهومها وهدفها سانحة لوقف مقاومة الفلسطينيين لالتهامها ما تبقى من أرضهم ، وتأمين مستوطنيها وجنودها ، وعرض صورة مضللة للواقع بينها وبين الفلسطينيين توهم بأن كل شيء هادئ وطبيعي ، وستفيدها هذه الصورة في تجنيبها أي انتقادات أو مقاطعات عالمية . لا أحد ينتقد ما هو هادىء وطبيعي ويقاطع المتصلين به . وفي ما أغدقه عليها اتفاق أوسلو من اعترافات وتطبيعات دروس وعبر . إذن ما الحل إذا كانت الهدنة بينها وبين غزة مستحيلة ؟! يناسبنا اتخاذ موقف دفاعي . نرد عليها كلما هاجمتنا ، ونوجعها في كل رد، وفي ذات الوقت نتابع بناء قوتنا الدفاعية ، ونرسخ وجودنا في كل نواحي البناء المجتمعي والعمراني . إنها تهدم ما تستطيع هدمه من هذا البناء . تهدم البيوت والمحال والمدارس والمساجد وحظائر المواشي ، وتجرف الأرض المزروعة ، وفي الموازاة ، تبني المستوطنات ، وتسمي بناءها خلق وقائع ثابتة . عند انسحابها من غزة في 2005 كتبت ناصحا أن بناء بيت جديد في غزة أنفع لنا من إطلاق عشرة صواريخ عليها . كل بؤسها ورعبها من زلزال زوالها مصدره الوجود الفلسطيني المجتمعي والعمراني بآفاقه المستقبلية . وفي إيجابيات فلسطينيي الضفة النضالية أنهم باتوا يتصدون جماعيا للمستوطنين المتوحشين الذين يهاجمون بيوتهم ومزارعهم والجيش في ذيلهم يستر جبنهم الخرافي ، وكثيرا ما فاز الفلسطينيون في صد المتوحشين الهمج . لا مهادنة لسارق أرض وقاتل شعب . هذا هو المستحيل .
وسوم: العدد 1036