أيها العقلُ من رآك ؟

صدرت الطبعة الاولى من كتاب عبدالله القصيمي «ايها العقل من رآك؟» عن دار «الانتشار العربي» في بيروت عام 2002 للميلاد. فهذه اذن ثلاث عشرة سنة مضت على تداول الكتاب. وان من طبائع الافكار الجريئة، سواء اكانت صحيحة ام كانت سقيمة، ان تجد اصداء متفاوتة بين المثقفين، فهل لقي هذا الكتاب ما يستحقه من ذلك؟ ام اكتنفه الصمتُ لاسباب يتخافت بها من يفهمونه او من يكونون ادنى مقتربا من مضامينه التي يحسبونها – كما يظنّها المؤلف نفسه- محظورة محذورة، فيسكتون عنها جملة وتفصيلا، وتتراخى السنون على اعتقاد الكاتب واعتقاد المشتغلين بالثقافة بان وراء القبة مزاراً، وبأن ثمة امرا خارقا يتكتمه الزمان؛ ويكبر اللغز، بل تكبر الاسطورة، مع ان في طوقنا ان نقول إن لسان الذي يلحدُ اليه القصيمي أجنبي اي غربي خالص، على الرغم من نشأته الأُصولية، وأن الأُنموذج الذي يتنوّره هو الشخصيات التي عرفها عصر النهضة الأُوروبية، والتي اتخذت الهرطقة سبيلا الى رفض مقررات الكنيسة العقدية، ثم انتهى بها الامر الى علمانية تريد لتنأى بالدين نفسه عن الحياة وعن كل تجلياتها من فكر وفلسفة وسياسة واخلاق.

ويذكرنا موقف القصيمي هذا بموقف الشاعر الانجليزي «شيلي» الذي ألّف كتابا وهو في السادسة عشرة من عمره بعنوان «ضرورة الالحاد» على الرغم من اخلاقياته العالية التي يصعب تفسيرها بغير التدين العميق.
كما يذكرنا بمفهوم «الالحاد» على نحو ما فسّره آرنست رنيان في اول كتابه عن «ابن رشد والرشدية» اذ «الملحد» في مطالع النهضة في أوروبا، ولأول انطلاقتها من عصورها المظلمة هو الرافض لتعاليم الكنيسة في روما، وحين يوصف ابن رشد بأنه من «كبار الملحدين» أو «المهرطقين» فان معنى ذلك عند رينان انه من كبار «المفكرين الأحرار».
ولسنا نستغرب، في ضوء ما تقدم، ان يقول القصيمي انه لو ألّف عربي «اشرس كتاب ينكرُ فيه الايمان، ويطلب الناس فيه بوقاحة او ضراعة ان يحكموا عليه بالزندقة، وان يصدقوا انه خرج من كل ابواب الايمان.. لاعتقدت ان هذا الكاتب وهذا الكتاب ظاهرة من ظواهر الايمان المتوتر، او انهما اثبات للشيء بأسلوب نفيه، وهو اقوى اساليب الاثبات.
ولو وقف الامر لدى القصيمي عند هذا الحد لكان تقريرا لظاهرة انسانية نجد شواهد عليها في تاريخ كل دين تختطفه «المؤسسة» ويتجاوز المؤمنون به بعض معطيات المكان والزمان، ويصدرون مرة اخرى عن مصادره النقية او عن مشكاته الاولى. لكن القصيمي لا يلبث ان يقول إن العربي لا يستطيع الالحاد (بأي معنى أخذناه) لانه «عملية عقلية شاقة معقدة، ولانه موقف فكري ونفسي واخلاقي» ونحن هنا امام مغالطة ظاهرة التهافت، اذ تحمل تبخيسا للعربي من حيث هو عربي، وتقييما هابطا لقدرته على رفض الانحراف في الاعتقاد ورفض التسلط المؤسسي على نحو ما كان من المفكرين الاحرار في أوروبا النهضة.
ولو كان القصيمي منصفا، او كان موضوعيا، او كان يصدر عن فهم صحيح لطبيعة العربي، ولاختلاف الاسلام في تجربته التاريخية، لما غابت عنه الحقائق التالية:
اولاً: ليس في الاسلام كهنوت، ولا رجال دين بالمفهوم الغربي، ولا حَظرٌ على العقل والعلم والفلسفة كما كان في عصور أوروبا المظلمة.
ثانياً: الإيمان (في الإسلام) لا الإلحاد هو الذي يتطلب موقفا فكريا ونفسيا واخلاقيا،، وعلماء الاسلام وكلاميّوه وبعض المتصوفة فيه أدلة لا تدحض على ذلك، فضلاً عن أن الذرى الفكريّة التي وصلوا إليها ظلّت منائر عالية يستهدي بها الأوروبيون أنفسهم.
ثالثاً: ان قراءة اي كتاب منصف في تاريخ الحضارات، مثل «حضارة العرب» لغوستاف لوبون و«قصة الحضارة» لوِلْ ديورانت و»تاريخ العلم» لسارطون، و»تاريخ الفلسفة الغربية» لبرتراند راسل وغير هذه الكتب التي ألّفها غربيون، تظهر القارئ على بعض معطيات العقل العربي الذي فجّر القرآن الكريم إمكانياته، وتظهره في الوقت نفسه على مبلغ تجافي القصيمي عن النزاهة والموضوعية فيما ذهب إليه.
وثمّة هَنَات وبَدَوات هي أقرب الى التشنج النفسي منها الى النظر العقلي، من مثل قول القصيمي: «إننا عاجزون عن امتداح العقل العربي الى مرحلة الاقتناع بانه قد يصبح كافرا»، اذ الكفرُ عنده هنا مأخوذ بمعنى الالحاد عند فلاسفة الأنوار، اي الثورة بالكنيسة ولا نقول بالمسيحية. ولا وجه مقبولاً لاسقاطه على تاريخ الاسلام الا عند اصحاب العمى الفكري والتشنج النفسي وما يتأديان اليه من اضطراب في التفكير والتعبير، كما نجد مثلا في قول القصيمي: «اني لا يمكن ان اعنى بالإله او الآلهة إله الكون وخالقه، واهبنا القدرة على الإيمان به، والعجز عن طاعته (كذا) واهبنا الصبر عليه والصبر عنه  (كذا ).

ومهما يكن من أمرٍ فإن اسقاط تجربة الغرب التاريخية مع الدين على «العربي» بطريقة اعتنافيّة تمتعت بألوانٍ من جلد الذات او بقدر من الاستعلاء الغاضب (لأسباب قد نفهمها).. (منها مرض نفسي عقيم في أؤلئك المتفاكرين المتثاقفين!) كل اولئك جعل من كتاب القصيمي ترجمة عن حالة نفسية وعقلية قد نتعاطف معها ونتفهم دوافعها. ولكننا لا نعدو بها طورها لتكون نصا فلسفيا عاليا او عملا عقليا معتبرا..