النووي الإسرائيلي والنبي إيليا في ظل حكومة توراتية
كنت أحاول الهروب من الكتابة عن مخاطر الفاشية الإسرائيلية بعد أن «إنهرت فشّتي» – كما نقول عندنا في فلسطين في وصف حالة التعب الحافي أو منتهى اليأس – من كثرة ما كتبت عبثا عنها وضدها وكيف علينا أن نواجهها. حاولت حتى جاءتني رسالة من صديق، محرر صحيفة «حيفا» يقول فيها: «نحن في الصحيفة نجري استطلاعا حول الردود على الاعتداءات على دير مار الياس، وهل تشعر بخطر حقيقي وماذا تقترح لحل الأزمة؟»، عندها عرفت أن لا هروب من واقعنا، فكل الطرق في فلسطين تؤدي إلى طاحونة الفاشية؛ وفكّرت أننا جميعنا، لا العرب المسيحيين فقط، كما يفهم من سياق الاستطلاع، في خطر حقيقي. وإذا كان للكنائس وللأديرة أنبياء يحمونها، فمن سيحمي الناس من حماقة متعصب أعمى يمسك في يمناه توراة وفي يسراه يتحكم في ترسانة نووية؟
كما كان متوقعا، نجحت الحكومة الإسرائيلية بتمرير تعديل «قانون أساس القضاء» وتعطيل قدرة استناد المحكمة العليا إلى «حجة المعقولية» في تبريرها لإلغاء قانون حاز أكثرية داخل الكنيست، إذا وجدته المحكمة يتنافى «وأحكام المعقولية»، أو عند أبطالها لمفعول قرار إداري يرونه القضاة «غير معقول».
يتفق جميع معارضي خطة الحكومة المعلنة على أن هذا التشريع في حالة بقائه، كما أقر، سيفضي عمليا إلى إجهاض دور المحكمة العليا في تأدية وظيفتها كسلطة مستقلة تحرص على عدم السماح للسلطتين التنفيذية والتشريعية أحيانا، بالمساس بحقوق المواطنين عامة، أو بحقوق الأقليات أو بعض الفئات التي لا تعدّ على معسكر الأكثرية الحاكمة. «تشليح» هذه الصلاحية من المحكمة العليا سيتيح لهذه الحكومة أن تنفلت وراء أهوائها السياسية، وأن تنفذ مخططاتها دون كوابح قضائية، كانت المحكمة العليا تعتمدها خلال العقود الفائتة في سبيل ضمان التوازن بين قوة الحكومات الكبيرة، لاسيّما في مثل حالة الحكومة الإسرائيلية الراهنة، التي تسندها أكثرية برلمانية يمينية متعصبة مطلقة ومستقرة، وبين ضرورة المحافظة على القيم الإنسانية المجمع عليها عالميا وحقوق المواطنين الأساسية. لست في معرض التطرق إلى جميع عواقب الانقلاب الحاصل داخل إسرائيل، فتأثيره الواضح على جميع مناحي حياة المواطنين في الدولة سيكون ملموسا وكبيرا؛ لكنّه سيكون كارثيا علينا، نحن المواطنين الفلسطينيين، فاقتصاديا سوف تتدهور حالة مجتمعاتنا على المستويين الجمعي والفردي على حد سواء، وسياسيا سوف تضيق جميع الهوامش المتاحة لنا اليوم، أو حتى سوف تسدّ بشكل نهائي وسنشهد موجات من الاعتقالات التعسفية والإدارية. أما مجتمعيا فسوف تتكاثر مظاهر الجريمة والعنف والفقر وستزداد مشاعر الاضطراب والخوف وفقدان الشعور بالأمن وبالسلم المجتمعي. ودينيا سوف تزداد أنشطة «كتائب أليشع» وعنفهم ضد جميع الأغيار والمؤمنين من جميع الديانات غير اليهودية وضد أماكن عباداتهم .لن تنحصر عواقب الانقلاب الجاري داخل المجتمعات الإسرائيلية وحسب؛ فتأثير مفاهيم النظام الجديد حيال الحق اليهودي الرباني والفريضة بتحصيله، مهما كانت الوسائل والنتائج، سيؤثر أيضا في تعاملهم مع قضية مستقبل الشعب الفلسطيني وقياداته، وعلى أدوات إدارة صراعهم مع الفلسطينيين بشكل عام. وستتأثر كذلك معايير وضوابط العلاقات الإسرائيلية مع جميع دول العالم، الصديقة منها أو الحيادية أو المستعداة؛ وهذه مسألة تستوجب المتابعة بانتباه شديد، خاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي يعيشها اليهود في جميع أرجاء العالم. لقد تطرق بعض المسؤولين في الدول الغربية وفي أمريكا ببيانات أشاروا فيها إلى المشهد الإسرائيلي بتعابير عامة، وتمنوا على قادة إسرائيل، من أجل حماية مصالحهم المشتركة، المحافظة على ما يعتبرونه ديمقراطية نظامها، وعدم المساس باستقلالية القضاء الإسرائيلي، وغيرها من الشعارات الفضفاضة والحذرة. لكنهم، لم يخفوا، في الوقت نفسه، خشيتهم من زعزعة الأسس والجسور التي بنيت عليها تلك التحالفات مع إسرائيل واستمرارها، رغم تعاقب الحكومات فيها على الحكم واختلاف تركيبات أحزابها السياسية. بات من الواضح أن تلك الأنظمة الصديقة لإسرائيل بدأت تشعر بأن شيئا مغايرا ومزعجا قد أصاب حليفتهم المدللة بعد الانتخابات الأخيرة، التي أفرزت أحزابا متطرفة ومتعصبة لا يهمها قطع أحبال السرة التي كانت تربطهم بها تاريخيا. لن أسهب في تعقيدات هذه المسألة لكنني أريد أن ألفت النظر إلى جزئية خطيرة واحدة منها يحاولون في إسرائيل، وليس فيها وحسب، أن تبقى في الظل وألا تنعكس في نقاشات الشوارع وبين المتظاهرين ولا على شاشات فضائياتها. إنها قضية «الترسانة النووية الإسرائيلية» ومصيرها إذا تنفّذ فيه وزراء الحكومة الحالية بشكل حر ومطلق. لقد حاول رئيس حكومة إسرائيل الأسبق إيهود باراك، وهو من أشد المعارضين لحكومة نتنياهو الحالية، تسليط الضوء على هذه القضية مرة واحدة قبل مدة قصيرة فغرد على صفحته قائلا: «قد يظهر هذا الأمر بالنسبة لنا كأنه هوس، ولكن في عدة محادثات جرت بين إسرائيليين وجِهات سياسية غربية، ظهرت بينهم حالة قلق عميق من احتمال نجاح المنقلبين على منظومة الحكم وقيام «ديكتاتورية مسيحانية» في قلب الشرق الأوسط، تحت إمرتها سلاح ذري، بينما يتمنى مهووسوها التصادم مع الإسلام وفي مقدمته «هار هبايت» (أي المسجد الأقصى). هذا أمر مرعب في نظر هؤلاء الساسة الغربيين. وهذا لن يحصل». هكذا كتب إيهود باراك بشكل واضح وصريح، ومن مثله يعرف عما يتكلم وأي خطر كارثي يتوقع. نستطيع أن نخمّن لماذا بقيت هذه المسألة طي الكتمان؛ لكنها، برأيي، لن تبقى هكذا ويجب ألا تبقى هكذا إلى أجل غير مسمّى؛ فهل سيأتي من سينتشلها من «هناك» وينقذ المنطقة من فقه قادة قلعة «متسادا» الجديدة.
هل نحن في خطر؟ إذا كان القصد كمواطنين عرب مسيحيين في إسرائيل، فالجواب نعم؛ لكنّه الخطر نفسه الذي يواجهه كل مواطن فلسطيني يعيش في إسرائيل؛ فمسيحيتك لم ولا ولن تمنحك الحصانة أمام من وفق عقيدته السياسية يراك أولا عدوه القومي، ثم يحسبك، دينيا، مخلوقا خسيسا ومنقوصا، ويتمنى في صلاته ودعائه أن يمحى اسم وذكر مسيحك الآن وإلى الأبد. من يتحرشون بالكنائس ومعلّموهم وحاخاماتهم على قناعة بأن مسيحيتك، مهما كانت وديعة، لن تنقذك من نارهم إذا صفت لهم النار. لم يكن التحرش الأخير بكنيسة مار الياس على الكرمل أول تحرش هناك؛ فقد سبقته تحرشات أخرى ومرّت في النهاية «بود وبسلام». وكانت قبلها اعتداءات على كنائس في عدة مواقع في البلاد تم في بعضها حرق الكنيسة، وأحيانا الاعتداء على الكهنة ومن وجد في المكان. يتحرك جميع المعتدين على الكنائس المسيحية بدوافع عقائدية دينية مدعومة بتعاليم التوراة، وأحيانا يتذرعون بحجج كاذبة أو مختلقة ليبرروا أفعالهم، مثلما ادعوا، لتبرير تحرشهم بكنيسة مار الياس، بوجود قبر، أو مغارة للمدعو أليشع، وهو النبي الذي استخلفه النبي إيليا قبل صعوده إلى السماء بمراكب النار، حسبما ورد في قصص العهد القديم. أنه الادعاء ذاته الذي استخدموه عندما احتلوا قبور منسوبة للأولياء وللصالحين أو مزارات مزعومة للأنبياء من أعالي الجليل حتى رمال النقب، مرورا بجميع أرض فلسطين التاريخية تضاف إليها مطامعهم في عدة مواقع موجودة في المملكة الهاشمية الأردنية.
ما العمل؟ هو السؤال الذي طرحته في عشرات المناسبات وقصدت ما العمل في مواجهة الفاشية والفاشيين، ولكنني لن أتعاطى معه اليوم. أما في ما يخص العمل لإنقاذ المسيحية العربية في فلسطين، فهذه مهمة خيالية ليس إلا. فكما كتبت في الماضي أوكد اليوم أن الفلسطينيين المسيحيين قد هزموا في وطنهم عمليا ولم يعودوا يشكلون كيانا ذا شأن أو وزن، ولا يحسب لهم حساب يتعدى ضرورات البروتوكول أحيانا أو التقليد المتبع أو التعويض بهدف إبقاء أثر لهم يربط هذه الكنائس مع بدايات المسيحية وآبائها الأوائل، الذين حافظوا عليها في مهدها، أرض فلسطين والمشرق العربي. علينا أن نتذكر أن عدد المسيحيين العرب في إسرائيل يناهز المئة وعشرين ألفا موزعين على حوالي سبع عشرة كنيسة، يشكل أتباع الكنيسة الكاثوليكية، صاحبة كنيسة «مار الياس» المعتدى عليها، نصفهم تقريبا. لن أسهب في تشخيص مسببات حالة النكوص وعدم التفاعل المثابر والجدي والحقيقي من أجل حماية الكنائس وممتلكاتها، لكنني على قناعة بأن هذا النكوص هو جزء من الحالة العامة التي يعاني منها المواطنون العرب في إسرائيل، وهي كذلك نتيجة كوننا، نحن المسيحيين المحليين، مستعمرين من رؤساء كنائس أجنبية سرقوا في الماضي مسيحنا ثم استولوا على فضاءاتنا وسادوا فيها في أجواء من الاستعلاء الاستعماري واغترابنا المزمن عنها، وغيابهم حين تقع الواقعة في دهاليز الدبلوماسية ومصالحهم الضيقة. وأخيرا، يجب أن نقرّ بأن الدفاع عن هذه الكنائس والأديرة لا يمكن أن يكون جدّيا ومجديا إذا لم يسبقه ويرافقه دفاع آباء هذه الكنائس وإكليروساتها عن ممتلكاتها وأوقافها وإذا لم يوقفوا التفريط بها وتغييب مصالح الرعايا الحياتية. هل من حل لهذه الأزمة؟ ربما، فعلينا بالفاشية أولا، وليكن النبي إيليا للمؤمنين سندا ومراكبه مملوءة صبرا وحكمة ونورا.
وسوم: العدد 1043