انقلابات أفريقيا وشركاء «فاغنر»: أبعد من الارتزاق الكلاسيكي

  

في ورقة بحثية محكمة المعطيات حول الانقلابات بين 1950 و2010، صدرت عن كلية العلوم السياسية في جامعة كنتاكي الأمريكية، يتوصل الباحثان جوناثان بأول وكلايتون ثاين إلى الإحصائية التالية: من أصل 486 انقلابا، ناجح أو منحصر في المحاولة، على مستوى عالمي، تنفرد أفريقيا بالرقم الأعلى مع 214، بينها 106 نجحت بالفعل. يضاف إلى هذا أنه، منذ آب (أغسطس) 2020، شهدت القارّة 8 انقلابات في مالي (انقلابان خلال 9 أشهر) وغينيا، والسودان، وبوركينا فاسو (انقلابان خلال 8 أشهر) والنيجر، والغابون حالياً.

موضوع هذه السطور ليس ملفّ الانقلابات، لجهة أسبابها ومنطق وقوعها والقوى المحرّكة خلفها وإشكاليات العسكر والعسكرتاريا في أفريقيا (أو العوالم النامية والجنوب عموماً)؛ بل مناقشة عنصر بارز فاعل خلف ظواهر الانقلابات، يسبقها أو يتزامن معها أو يعقبها، ويحدث غالباً أن تجري السيرورة على هذا النحو الثلاثي. هذا العنصر هو تشكيلات المرتزقة، الأجنبية وغير الأفريقية غالباً، التي يصحّ أن تتسع ديناميات حضورها في القارّة لتكريس التعريف الأكثر دقة واشتمالاً؛ أي ذاك الذي يصفها هكذا: «الشركات العسكرية والأمنية الخاصة» أو الـPMSC في اختصارها الإنكليزي. الأشهر بينها، هذه الأيام، هي شركة ّفاغنر» الأوسع انتشاراً في القارّة (مارست أنشطة عسكرية وأمنية مختلفة المهامّ في مالي وليبيا والسودان وزيمبابوي وأنغولا ومدغشقر وغينيا وغينيا بيساو والموزامبيق وبوركينا فاسو وتشاد وأفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو)؛ ولم تكن وحدها في هذه الساحة أو تلك، بل استضافت شركات روسية أخرى مثل «مجموعة RSB» و«مجموعة موران الأمنية» و«مجموعة باتريوت».

لكنّ أنشطة «فاغنر» وشركائها لا تقتصر على المهامّ الأمنية والعسكرية، بل تتولى أيضاً عمليات النهب غير الشرعي لثروات أساسية مثل الذهب والماس، وتسهّل خطوط تهريبها، وتجني بالتالي قسطاً غير محدود من العوائد المالية لقاء هذه الخدمات؛ الأمر الذي لا يقتصر على أنظمة القارّة الأفريقية، ولعلّ مثاله الأوضح هو العلاقات الاستثمارية بين «فاغنر» ونظام بشار الأسد في سوريا. وعبر اثنتين من الشركات النفطية الروسية، «إيفرو بوليس» و«ستروترانس غاز» أمّنت «فاغنر» عقود نفط ومناجم فوسفات في وسط سوريا ومناطق الساحل؛ في غمرة تنافس خفيّ، أو معلن أحياناً، مع شركات إيرانية تطمع في حصص دسمة من احتياطي الفوسفات (سوريا هي الخامسة عالمياً).

الشركات الأمنية الأخرى، غير الروسية، أكثر عدداً من أن تحصى في هذا المقام، ولكن قد تكفي الإشارة إلى أنّ جنسياتها لا تقتصر على القوى الاستعمارية القديمة (ميراث رجال من أمثال «ماد مايك» البريطاني وبوب دونار الفرنسي)؛ بل ثمة شركات أمريكية وصينية وجنوب أفريقية وحتى نروجية؛ وأخرى عناوين إقامتها في الإمارات مثل الـ»بلاك شيلد» أو في تركيا مثل الـ»سادات» أو في بلغاريا مثل الـ»أجيميرا»… وكمثال على سيرورات تطور هذه الشركات، يُشار إلى نموذج الـEO، التي أسسها إيبن بارلو في جنوب أفريقيا سنة 1989 وتولت حماية منشآت الطاقة في أنغولا وتدخلت في حرب سيراليون الأهلية، حتى أقدمت حكومة ما بعد الأبارتيد على حلّها؛ لكنّ شركات أخرى سارعت إلى تمويلها مجدداً، فعادت لحيازة حقوق التعدين في سيراليون. ليس هذا فحسب، بل أسهمت الشركة في إخماد انتفاضات شعبية، ودرّبت جيوشاً انقلابية، وحرست/ نهبت مناجم ماس هنا وهناك، ولعبت دوراً في مجازر رواندا سنة 1994؛ بل بلغ الأمر أنها تقدمت إلى الأمم المتحدة باقتراح إيقاف المجازر مقابل 120 مليون دولار!

العلاقات الاستثمارية بين «فاغنر» ونظام بشار الأسد في سوريا، وعبر اثنتين من الشركات النفطية الروسية، «إيفرو بوليس» و«ستروترانس غاز» أمّنت «فاغنر» عقود نفط ومناجم فوسفات في وسط سوريا ومناطق الساحل

أحد أبرز العوامل وراء إحياء أنشطة الارتزاق الأمني والعسكري، وانقلابها إلى شركات خاصة كونية ذات طابع استثماري وربحي يُحتسب بالمليارات وليس بالملايين، كانت وتظلّ «عقود الحرب» التي أبرمتها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان: المرء يفترض أنّ الدول الفاشلة، يساجل جوناثان بأول وكلايتون ثاين، هي التي تحتاج إلى كيانات عسكرية ارتزاقية الطابع؛ ولكن أن تلجأ إلى هذا الخيار قوّة كونية عظمى مثل الولايات المتحدة أمر يعني تكريس «صناعة» وتوفير «قدوة صالحة» لانتشارها كيفما اتفق، ويستوي أن تكون الحاجة ماسّة طويلة الأجل أو موسمية عابرة. ومعادلة التناسب بين المقاتل النظامي والمقاتل المرتزق كانت، في عقود البنتاغون والمخابرات المركزية الأمريكية، لافتة حقاً: 1 مقابل 1 في البدء، ثمّ 50٪ نسبة المرتزقة في العراق، و70٪ نسبتهم في أفغانستان؛ مقابل 10٪ فقط من عقود القتال الخاصة خلال الحرب العالمية الثانية، مع فارق أنّ غالبية المتعاقدين لم يكونوا مسلحين وعُهد إليهم بوظائف مكتبية وغير قتالية.

الأكثر ابتهاجاً بميل أمريكا نحو التعاقد مع المرتزقة هو إريك برنس مؤسس مجموعة «بلاكووتر الدولية»؛ الذي، في سنة 2017، حثّ الإدارة والكونغرس والبنتاغون على استبدال كامل الجيش الأمريكي في أفغانستان بالمرتزقة من مجموعته وشركائها (ويومذاك، للإنصاف فقط، كان يفغيني بريغوجين مجرّد «طبّاخ بوتين» وليس مؤسس أو قائد «فاغنر»). هي دعوة إلى «خصخصة الحرب» في أفغانستان، مثلما سبقتها دعوة إلى «خصخصة السلام» في القارة الأفريقية؛ ولم يكن مستغرباً أن يحظى هذا التنظير الجديد باهتمام هستيري من وسائل الإعلام الأمريكية وخبراء الجيو ـ سياسات. لا أحد جادل في حينه أنّ القوّة الكونية الأعظم في حاجة إلى «بندقية بالإيجار» في ما تملك من ترسانات أسلحة فتاكة متقدمة ستراتيجية وتكتيكية وتقليدية ونووية، ولكنّ خيار الانتقال إلى الخاصّ بدل العام في إدارة الحروب كان يدغدغ طبقة غير هزيلة من أدمغة دعاة نهاية التاريخ وانتصار إنسان رأس المال الأخير!

مجلس الشيوخ الأمريكي، في تقرير مفصل أعقب تحقيقاً ميدانياً، أقرّ بأنّ «الصناعة» العسكرية والأمنية الأمريكية في أفغانستان والعراق استولدت صناعات محلية؛ وبالتالي فإنّ «ما سبق أن وُصفوا بأمراء الحرب وقادة الميليشيا باتوا الآن شركات أمنية خاصة» بفضل سابقيهم من الشركات الأمريكية والبريطانية. على سبيل المثال، تعاقدت الشركة البريطانية «آرمور غروب» مع شركتين أفغانيتين، أطلقت على الأولى اسم «المستر أبيض» وعلى الثانية «المستر وردي»؛ وكلا الشركتين تورطت في جرائم قتل ونهب وسلب واختطاف وأنشطة جنائية شتى. ليس بعيداً عن هذا الجانب، غير الخالي من عنصرية مبدأ «عبء الرجل الأبيض» القديم، اعتمدت أمريكا الرسمية على «أبناء البلد» من أفغان وعراقيين وجنسيات محلية أخرى؛ حيث الكلفة أرخص بكثير من توظيف عناصر أمريكية أو أوروبية، وطبقاً للبنتاغون فإنّ نحو 20 ألف متعاقد مع الجيش الأمريكي في سنة 2018 كانوا من حملة الجنسية الأمريكية، مقابل 30 ألف متعاقد من غير الأمريكيين.

وهكذا، أبعد من ارتزاق «فاغنر» الكلاسيكي، ومن تجنيد الميليشيات المأجورة في أنساقها الحديثة والمعاصرة، أو حتى سوابقها النظيرة في القرون الوسطى؛ ثمة اليوم قواعد تأسيس واشتباك وإدارة، مدماكية الطابع، بادرت الولايات المتحدة إلى إرساء ركائزها وأعرافها وقوانينها، وأسفرت عن صناعة ثقيلة هائلة العواقب ومليارية المغانم: انقلابات أفريقيا المتعاقبة ليست سوى الوجهة المعلَنة من 160 مليار دولار أنفقتها وزارة الدفاع الأمريكية على التعاقدات الخاصة بين أعوام 2007 وحتى 2012، وهذه (لهواة المقارنات الصاعقة) تعادل أربعة أضعاف ميزانية الدفاع في المملكة المتحدة. لا تُحتسب ضمن هذا الرقم، بالطبع، ما سددته أنظمة الانقلابات والاستبداد والفساد والتوريث، سواء في صيغة مبالغ مالية وودائع في مصارف أوروبا لحساب الشركات العسكرية والأمنية، أو في هيئة عقود استثمار ذهب وماس وفوسفات وثروات.

وسوم: العدد 1048