واشنطن والـ«فيتو»: لا وقف لإراقة الدم الفلسطيني
استخدمت واشنطن حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي لتعطيل مشروع قرار برازيلي الصياغة يدعو إلى هدنة إنسانية في حرب دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ أكثر من 2 مليون قاطن في قطاع غزّة، وذلك رغم أنّ النصّ يدين ما وصفها بـ«الهجمات الإرهابية الشنيعة التي شنّتها حماس». وكان في وسع الولايات المتحدة أن تفوّض أياً من حليفتيها بين الدول دائمات العضوية في مجلس الأمن الدولي، فرنسا مثلاً أو بريطانيا (التي اختارت لعبة الامتناع عن التصويت) لتعطيل المشروع، تخفيفاً من حدّة اصطفاف واشنطن الأعمى المطلق خلف الهمجية الإسرائيلية؛ لكنها لم تفعل، لأسباب شتى لا يتوجب أن تغيب عنها حقيقة «الفلسفة» المتكاملة التي تعتمدها الإدارات الأمريكية في تسيير حقّ النقض كلما اتصل بأمر يؤذي دولة الاحتلال.
لافت، إلى هذا، أنّ ذريعة الرفض، كما جاءت على لسان ليندا توماس غرينفيلد المندوبة الأمريكية الدائمة، هي عدم تشديد النصّ على حقّ دولة الاحتلال في الدفاع عن النفس؛ وأمّا الجوهر، في المقابل، فهو أنّ الهدنة/ وقف إراقة الدم الفلسطيني لا تخدم ستراتيجيات الاحتلال في هذه المرحلة من عمليات «السيوف الحديدية»، وبالتالي فإنّ مبدأ وقف إطلاق النار (المبتغى في كلّ الحروب، من حيث الشكل على الأقلّ) ليس مرغوباً إسرائيلياً في هذا الطور من العدوان، ولا أمريكياً استطراداً.
غير خافٍ، بالطبع، أنّ حقّ النقض هذا استُخدم، ويُستخدم مراراً وتكراراً، لتعطيل مشاريع القرارات التي لا تلائم هذا أو ذاك من أعضاء مجلس الأمن الدائمين، أمريكا وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا؛ ولو كان مشروع القرار يخصّ إدانة نظام بشار الأسد في سوريا، لانتهاكات لا تقلّ شناعة عن جرائم الحرب الإسرائيلية، لاستخدمت موسكو أو بكين الحقّ إياه.
الأمر، من جهة ثانية، يتصل بنهج قديم ومتقادم ودائم التجدد، هو رفض مبدأ الهدنة حين تكون دولة الاحتلال هي الطرف الذي يشنّ الحرب؛ ولعلّ الواقعة الأشهر، في ذاكرة الصراع العربي – الإسرائيلي الحديثة أو شبه المعاصرة، كان رفض واشنطن ولندن إيقاف العمليات العسكرية خلال الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان سنة 2006، ومنح جيش الغزو الإسرائيلي ترخيصاً بالمزيد من المجازر. آنذاك أيضاً، وعلى صعيد قاطرات الاتحاد الأوروبي اللاهثة خلف البيت الأبيض، خيّم على أروقة بروكسيل جدل بيزنطي عقيم انخرطت فيه غالبية الديمقراطيات الأوروبية، حول التفريق اللفظي بين «وقف إطلاق النار» و«وقف الأعمال العدائية»؛ وأمّا الوحش الإسرائيلي البربري الهمجي فقد كان يواصل الإجهاز على المزيد من المدنيين في لبنان، فيقتل عشوائياً، ولا يُبقي حجراً على حجر، برّاً وجوّاً وبحراً…
وما يجري في غزّة الشهيدة اليوم، على نهج ما جرى في لبنان صيف 2006 والعراق ربيع 2003 والحروب الإسرائيلية السبع ضدّ القطاع، يعيد من جديد تظليل قسمات هذا النظام الدولي الذي استجدّ بعد سقوط جدار برلين وانهيار أنظمة الاستقطاب القديمة. الآن، وبعد توسيع الحلف الأطلسي خصوصاً، لم يعد دهاقنة تحليل العلاقات الدولية مضطرين إلى تقليب الرأي في استقطاب أنغلو – ساكسوني (أمريكي/ بريطاني)، مقابل استقطاب أوروبي (فرانكو/ ألماني)، وثالث آسيوي (هندو/ صيني)، أو رابع يتشكل بين موسكو وبكين… وصار في الوسع الحديث، اليوم، عن نظام أمريكي إمبراطوري، تشارك فيه أطراف «العالم الحرّ» على نحو من المحاصصة الوظيفية النسبية والتناسبية: لدولة الاحتلال الإسرائيلي أدوار غير تلك التي تتولاها بريطانيا، وعلى أستراليا أداء واجبات غير تلك الملقاة على عاتق اليابان، وفي وسع فرنسا أن تعترض أو تشاغب أو تتوسط، مثل ألمانيا أو إيطاليا، شريطة البقاء ضمن التعاقد الأعرض.
وإذْ تصادق واشنطن على إرادة العدوان الإسرائيلي في عدم التوقف عن إراقة الدم الفلسطيني، فإنّ الجوقة الغربية لا تكتفي بترديد الصدى، بل تلهث خلفها وبها تلتحق.
وسوم: العدد 1055