هل فلسطين امتداد للحروب الصليبية؟
هل الحرب ضد فلسطين هي حلقة غير معلنة من الحرب الصليبية للغرب ضد العالم العربي والإسلامي؟ قد يبدو السؤال غريبا في القرن الواحد والعشرين، لكن تتبع تسلسل الأحداث التاريخية وتصرف بعض الحكومات الغربية طيلة عقود من الزمن في هذا الملف، بمعنى عرقلة البحث عن الحل، يعطي هذا الإحساس.
ارتباطا بهذا، احتضنت القاهرة يوم السبت 21 أكتوبر 2023 ما سمي «قمة السلام» لمعالجة آخر حلقة في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي انفجر بعد 7 أكتوبر، واندهش المسؤولون العرب لرفض الغربيين المصادقة على البيان الختامي الذين يدين قتل المدنيين من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وكيف ألح الغربيون على تضمين البيان «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس».
حل القضية الفلسطينية أصبح مرتبطا، إما ببزوغ تيار غربي يؤمن بقيم المساواة بين الشعوب، أو بتوازن القوى العسكرية في الشرق الأوسط ولعب بكين دورا في البحث عن الحل مستقبلا
موقف يبرز كيف يتعامل حكام الغرب بتأويل خطير مع القانون الدولي، وهذا يعطي الحق لإسرائيل ارتكاب ما شاءت من الجرائم وتغييب معطى أساسي وهو أنها قوة احتلال واستعمار. وكيف يتناقض هذا الغرب في مواقفه بين حرب أوكرانيا وحرب إسرائيل ضد المدنيين في قطاع غزة. دون شك، أحس المسؤولون العرب، ولاسيما من اعتقدوا وآمنوا بالتطبيع بنوع من ازدراء الغرب لهم بسبب هذا الموقف، الذي لا يعد جديدا. وهذا مثال واحد من الأمثلة الكثيرة حول القضية الفلسطينية، حيث إن هذا الغرب هو الذي قام بتقسيم فلسطين وأهدى لإسرائيل دولة، وهذا الغرب هو الذي يقول بمبدأ حل الدولتين، وجعل منه شعارا فارغا، وفي المقابل يرفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية منذ أربعينيات القرن الماضي، ويحدث هذا في وقت اعترف فيه الغرب بعشرات الدول وآخرها جنوب السودان، وتيمور الشرقية، وكوسوفو. هذا الغرب الذي يحافظ على تفوق إسرائيل العسكري، ويعرقل تطبيق القانون الدولي ضد سياستها التوسعية ويحمي جرائمها. وعلاقة بالنقطة الأخيرة، منذ وقوع جريمة قصف مستشفى الأهلي المعمودي هرعت عواصم غربية كبرى مثل واشنطن ولندن وباريس إلى محاولة تبرئة إسرائيل لتجنيبها مستقبلا أي محاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفي المقابل اتهمت الجهاد الإسلامي، وتبنت هذه الأطروحة ورفضت إجراء تحقيق دولي. في ظل هذه الأحداث، يطل المدير السابق للمخابرات الخارجية الفرنسية آلان جوييه في برنامج قناة TVL الفرنسية في اليوتيوب يوم 21 أكتوبر الجاري ليقول، «إن إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية، وعددا من العواصم الأجنبية لا تريد دولة فلسطينية، وتريد واشنطن الإبقاء على إسرائيل كحاملة طائرات لها في الشرق الأوسط». تصريح لم يصدر عن محلل سياسي، بل عن شخص ترأس أحد أهم الاستخبارات العالمية، ويتحدث انطلاقا من الوثائق والتجارب المعاشة. إن المتأمل لتاريخ الغرب، ليس بالضرورة أن يكون عربيا ومسلما، بل فقط مؤرخا نزيها يضع الأحداث في سياقها التاريخي والفكري، سيستنتج أنه ومنذ الحروب الصليبية، خاصة بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى واستعمار الغرب للعالم العربي، كيف أن تيارا عميقا من قادة هذا الغرب ومنذ قرون، يمكن تسميته «إشتبلشمنت غربي متطرف» (لا نعني به الأحزاب اليمينية المتطرفة) يعمد إلى إبقاء العالم العربي والإسلامي رهين المشاكل الكبرى. مرة باستعماره مع وصف كل مقاومة بالإرهاب خلال الأمس والحاضر، ومرة بشن حروب ضد بعض دوله، ومرة بالتسبب في نزاعات ترابية وعقائدية بين أوطانه، مستغلا غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان وتشبث الحكام العرب بكرسي السلطة، لخدمة الحلم الأبدي المسيحي، وهو أن عودة المسيح تمر عبر إسرائيل الكبرى، وبالتالي ضرورة توفير الدعم اللامشروط لها. لم يعد الأمر يتعلق بمرحلة تاريخية معينة، بل بكل المراحل ومنذ الحروب الصليبية. وهي مراحل يجمعها خيط ناظم، من الحروب الصليبية الأولى إلى الاستعمار الذي هو كذلك حلقة في الفكر الصليبي إلى الإبقاء على القضية الفلسطينية معلقة ودون حل لتكون المبرر للتدخل وتمزيق العالم العربي. لا يمكن لقادة العالم العربي الذين انتقلوا، وضد شعوبهم، في الملف الفلسطيني من موقف اللاءات الثلاث الى مؤتمر فاس والاتفاقيات الثنائية مثل كامب ديفيد ثم اتفاقيات أبراهام الأخيرة، أن لا يأخذ الغرب تضحياتهم (على حساب الشعوب العربية) بعين الاعتبار. عدم أخذ التنازلات التاريخية بعين الاعتبار يؤكد مدى ازدراء هذا الغرب للحكام العرب، مهما قدموا من خدمات لإسرائيل اعتقادا في السلام سيبقون ضمن تصور «الأغيار» أي العبيد في خدمة «شعب الله المختار».
نعم، يدرك هذا التيار الغربي أن القضية الفلسطينية تسبب شرخا عالميا، لأنه يرتكز على ما هو أخطر من الاقتصادي والثقافي والحدودي (الأرض) ونعني ارتكازه على العقائدي، الذي يعمل على تغييب المنطق في غالب الأحيان، ورغم ذلك، يحافظ هذا التيار الغربي المتطرف على استمرار هذا النزاع، دون حل وفي تغليط متعمد لجزء كبير من الرأي العام الغربي لكيلا يعرف حقيقة الصراع. لم يعد الأمر صدفة، بل مخططا استراتيجيا تاريخيا يتم توارثه وسط هذا التيار المتطرف من جيل إلى جيل. لقد كان محقا الرئيس الأمريكي جو بايدن بقوله يوم الجمعة 20 أكتوبر 2022 «نحن أمام منعطف تاريخي سيحدد العقود المقبلة». جاء هذا في خطاب له من البيت الأبيض، وهي المرة الثانية منذ توليه الرئاسة التي يخاطب فيها الأمريكيين من البيت الأبيض، لكي يعطي الانطباع بخطورة الأوضاع. نعم الرئيس الأمريكي محق في قوله لسببين وهما:
في المقام الأول، التيار المتطرف في الغرب يفقد المبادرة في الشرق الأوسط بسبب القوة العسكرية المستقلة التي اكتسبتها حركات مثل حماس وحزب الله، بل وبعض الدول مثل مصر، إذ أن صياغة العلاقات الدولية يقوم أساسا على مفهوم القوة، ثم يأتي القانون الدولي، إذ يكفي أن إسرائيل لم تعد البعبع لتخويف الشرق الأوسط، ويكفي أن الولايات المتحدة أرسلت حاملتين للطائرات وأنظمة الثاد لحماية إسرائيل في حالة اتساع الحرب لأن إسرائيل لم يعد لها «حراس الجدار».
في المقام الثاني، يدرك التيار الغربي المتطرف بزوغ قوى جديدة، خاصة الصين التي بدأت تلعب دورا متناميا في حل نزاعات الشرق الأوسط، وكان لها الفضل في إنهاء النزاع السعودي – الإيراني الذي يعني الشيعي – السني خلال مارس 2023، وهي أول دولة، بعد منعطف 7 أكتوبر، ترسل مبعوثا إلى الشرق الأوسط بحثا عن حل لهذا النزاع.
إن حل القضية الفلسطينية أصبح مرتبطا أشد الارتباط، إما ببزوغ تيار غربي يتخلى عن الأفكار الصليبية لدى «الاشتبلشمنت الغربي المتطرف» ويؤمن بقيم المساواة بين الشعوب، أو بتوازن القوى العسكرية في الشرق الأوسط ولعب بكين دورا محوريا في البحث عن الحل مستقبلا.
وسوم: العدد 1055