أدونيس متجاهلاً غزة.. ويا فلسطينيي العالم: «كم مرة ستسافرون»!
لا ندري إنْ كان العالم انقسم من قبل على هذا النحو الحاد، كما يحدث إزاء فلسطين اليوم. في الولايات المتحدة، بين مشايعي الحزبين المتنافسين، في الكونغرس، ومختلف الولايات، كذلك الأمر في المملكة المتحدة، في أوروبا، في آسيا، في كافة أرجاء الأرض، من السويد إلى جنوب أفريقيا، وحتى في قلب إسرائيل، ستجد من هو أقرب إلى فلسطين من بعض أبناء القضية نفسها. وَصَلَ الخلاف حتى إلى عائلة أنجيلينا جولي، حيث تساند النجمة الأمريكية الفلسطينيين، فيما تتلقى اللوم على الملأ من والدها على تعاطفها.
يصعب تفسير لماذا استطاعت فلسطين ما لم يستطعه غيرها من قضايا، ليست أقل عدالة، ودَفَعَ بعضُها أثماناً مماثلة لما دفعه الفلسطينيون، لكن يبدو أنه بات من المعتاد، على مرّ عقود، أن تصبح هذه البقعة الصغيرة من الأرض ضمير العالم، غير الرسمي بالطبع، مهما ادعى، باتت هذه القضية بشارة المقهورين والمستضعفين والمهمشين (كما لو أنهم فلسطينيو العالم) هزيمتها هزيمة لكل قضية نبيلة، وانتصارها عزاء ووعد.
ومن يستطيع أن يقضي يوماً، هذه الأيام، من دون أن يهتف أو يناقش أو يقارع أو يدمع على ما يجري للفلسطينيين، الذبح الذي لطخ شاشات العالم بالأحمر. ومَن يستطيع اليوم أن يعبُر هذه الكارثة من دون أن يلوّح بكوفية، أو أي إشارة تضامن!
أدونيس يستطيع
أدونيس، الشاعر السوري – اللبناني – الفرنسي يستطيع، في إمكانه أن يتجاهل حرباً تكاد دماؤها «تُطَرْطِش» الشاشة نفسها التي يطلّ منها. في إمكانه في مقابلة (بثت في 23 الشهر الماضي ، أي بعد مضي 16 يوماً على الحرب، وفي خضمها) من ساعة ونصف بحالها أن لا يقول كلمة، بل ويظهر بكامل غروره وإصراره على العيش في عوالم قصيّة.
باتت فلسطين بشارة المقهورين والمستضعفين والمهمشين (كما لو أنهم فلسطينيو العالم) هزيمتها هزيمة لكل قضية نبيلة، وانتصارها عزاء ووعد
لن أتحدث هنا عن أداء مضيفته، التي تحاوره كما لو أن الرجل يطلّ على الناس لأول مرة في حياته، وكما لو أنها تبدأ تجربتها الصحافية اليوم فقط، رغم أنها سليلة مدرسة عريقة في الإعلام: «كيف تقدم نفسك؟ كيف تحولت من أحمد سعيد إسبر إلى أدونيس؟ ما نصيحتك إلى الجيل الجديد؟ كيف يتحدى أدونيس نفسه؟ تعريفك للصوفية؟ أحلامك؟ أي قضية تحمل؟» وصَدّقْ، لن تأخذ منه حديثاً أو تعريفاً مفيداً، فدائماً الأجوبة المتعالية، والمتعالمة، كحديثه المكرور عن أنه يعيش بلا أعداء. لماذا؟ لأنه يريد أعداء عظاماً: «لا عدو إلا نفسي»، وبالطبع علينا أن نستنتج أن الرجل عاش القرن كله وحيداً لعصره، عظيماً لزمنه.
الموضوع الوحيد، الذي يعطي فيه أدونيس أجوبة صريحة ومسهبة يتعلق بزيارته إلى المملكة السعودية، فقد تحدث عن اكتشافه أن أعمق قرائه هم السعوديون (أنا حزين جداً من أجل قرائك «السطحيين» في مختلف الأمصار العربية) واستطردَ يقول: «بالنسبة لي، ما فعله محمد بن سلمان حتى الآن عمل عظيم، ما فعله إنقاذ، أو تخليص هذه القارة العظيمة من قبضة السلفية الوهابية، وأعطى الحرية للمرأة. هذا وحده يكفي لكي نحيي محمد بن سلمان».
لا ندري إن كان سيتسامح الممانعون مع أدونيسهم على هذا التجاهل القاسي لحدث يشغل الكرة الأرضية. أولئك الذين لطالما رفعوه وأعلوا شأنه لمناصرتهم في سوريا، كيف سيرضون عنه متجاهلاً القضية التي يعيشون منها، من أجلها، عنوان كل القضايا!
والحق، ليس أدونيس وحده، فبالقياس على ردود الفعل حول العالم؛ من أنجيلينا جولي (نالت تعليقات قاسية من رئيس إسرائيل) إلى بيلا حديد، إلى مسؤولين أمميين، وناشطين، وشخصيات ثقافية وفكرية في الغرب، تحسب أن مثقفينا لا بدّ أن يقفوا وقفة استثنائية من أجل غزة، أمام السفارات، على الشاشات، على معبر رفح، لا الاكتفاء ببيان يتيم يمكن أن يكون نوعاً من المجاملة، أو رفع العتب.
عبثاً تطالب وتتأمل. وما دام كاتب فلسطيني مرموق كيحيى يخلف سيحتفل بتوقيع كتابه في رام الله، في عز المقتلة، سيستطيع أدونيس، أو سواه، أن يطلّ على هواه، من دون أي إحساس بالذنب أو الخجل!
النزوح الأبدي
مشاهد الدم والقصف الوحشي والضحايا تحت أنقاض غزة مروّعة، وحشية، كابوسية ودموية، لكنها ستنزاح، ربما، سريعاً من مخيلاتنا، ومن شاشاتنا قبل ذلك، إن لم نكن أَشَحْنا سلفاً بوجوهنا عنها. لا أحد يريد أن يمرض، أن يعيش بقلب الكابوس. لكن المشاهد التي ستبقى، وبلا رحمة في رؤوسنا هي مشاهد النزوح الكبيرة. رحيل أهل غزة الحاشد عن بيوتهم لا يصدق، استعادة لئيمة لنكبة 1948، مع فرصة للتدقيق بوجوه الناس وانفعالاتهم وما استطاعوا أن يحملوا معهم.
هل كانت هذه العجوز، التي جربت النزوح في النكبة، تتخيل أن تهجّر مرة أخرى! وقد تجد بين الحشد مَن جرّب النزوح مرات، بعدد الحروب والنكبات والنكسات، ولا شك ستعثر الكاميرات على بعض الذين شرّدتهم حرب النظام السوري على شعبه، ومختلف الشعوب، من مخيم فلسطيني إلى غزة.
أما من نهاية لهذه المأساة!؟
وسوم: العدد 1058