القضية السورية: تجاهل دولي وغياب وطني
غطت أخبار عملية «طوفان الأقصى»، والحرب الإسرائيلية ضد المدنيين في غزة، ومعظمهم من الأطفال والنساء والمسنين، بحجة الانتقام من حماس، وتداعياتها وتفاعلاتها المستمرة، على ما يجري في بلدان المنطقة (سوريا، العراق، السودان، ليبيا، تونس، لبنان…)؛ وحتى على أخبار الحرب الروسية على أوكرانيا؛ وذلك بفعل ما تهدد به هذه الحرب من احتمالات التوسع والتصاعد. هذا رغم حرص الجانب الإيراني وأذرعه الميليشياوية الواضح على التزام الانضباط، والسير وفق أسس عملية التعايش المعهود مع الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة رغم كل حالات الشد والجذب بينهما.
ومن باب التخصيص والتركيز، سيتمحور هذا المقال حول الوضع السوري الذي وصل إلى الطريق المسدود وفق ما أشار إليه المندوب الأممي الخاص بالشأن السوري غير بيدرسون في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن بتاريخ 30 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وتفسير ذلك يتمثّل في عدم جدية المجتمع الدولي في عملية البحث عن حلول واقعية لمعالجة هذا الوضع؛ والاكتفاء بالاختفاء خلف قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015 الذي كان حصيلة التوافق الأمريكي الروسي؛ وهو قرار شأنه شأن القرار 242 لعام 1967 الخاص بالموضوع الفلسطيني، يفتقر إلى آليات التنفيذ، ولا ينص على التزامات واضحة محددة بالسقف الزمني؛ ويعتمد مبدأ التوافق بين السلطة الأسدية والمعارضة مدخلاً للحل. وما أسهم في إضعاف هذا القرار أكثر، يتمثل في تلك الهرطقة التي مرّرها ديميتسورا بناء على إيحاءات روسية على الأغلب، واختزل بموجبها القضية السورية بكل تعقيداتها في لجنة دستورية عقيمة عام 2019، لجنة لم، ولن، تسفر عن شيء في ظل الموازين الحالية، وطريقة تعامل المجتمع الدولي معها، وهي الطريقة التي لم تتجاوز بعد دائرة عقلية إدارة الأزمة غير المنتجة.
ولكن الأمر الذي ينبغي ألا يغيب عن البال في أي لحظة هو ضرورة عدم تجاهل مسؤولية سوريي المعارضة، سواء الرسمية أم غير الرسمية التي تشمل القسم الأكبر من السوريين، في هذا المجال.
فالمعارضة الرسمية بمنصاتها المختلفة، قد تحوّلت بكل أسف إلى جزء من أدوات وأوراق المفاوضات والصفقات التي كانت، وستكون، بين مختلف الدول المنخرطة في الموضوع السوري؛ وهي الدول التي تنتظر صفقة، أو صفقات، تتفاهم بموجبها مع الجانب الأمريكي حول المعادلات الإقليمية المستجدة وتفاعلاتها الدولية في المرحلة المقبلة؛ وهي معادلات يبدو أن ملامحها النهائية لم تتبلور بعد رغم الإشارات والمعطيات التي توحي بإمكانية التوصل قريباً إلى توافقات معينة، ولو بصورة مؤقتة؛ توافقات قد تشكل أرضية لحلول جزئية بين الأطراف المعنية، ربما تكون في الأفق المنظور بديلاً عن الحل العام الشامل، وهو الحل الذي ينتظره السوريون بفارغ الصبر وسط المعاناة القاسية التي يعيشونها على مختلف الصعد، ولكن شرط أن يكون حلاً يرتقي إلى مستوى تضحياتهم وتطلعاتهم.
أما بالنسبة إلى المعارضة غير الرسمية، أي غير المؤطرة ضمن المنصات التي لها ممثلون في هيئة التفاوض، وواجهاتها المتمثلة في اللجنة الدستورية، التي لم تنجز حتى الآن أي شيء، بل لم تدخل في مفاوضات حقيقية رغم مرور أكثر من أربع سنوات على تشكيلها؛ فهي الأخرى تعيش حالة قلق وعدم وضوح رغم انعقاد اجتماعات متعددة في الآونة الأخيرة في أكثر من مكان تحت شعارات متفائلة. فالذي يحصل بعد كل اجتماع فيزيائي أو افتراضي، هو أن تنسحب مجموعات، وتصدر البيانات والتوضحيات، ويتم الرد عليها ببيانات أو توضيحات، لتغدو المشاريع الطموحة المقدمة مجرد ذكرى يتم تناولها من حين إلى آخر على شبكات التواصل الاجتماعي.
واللافت في هذا السياق، هو أنه لم تعقد حتى الآن اجتماعات تضم من تصدروا المشهد المعارض في أوئل الثورة السورية، لا سيما أولئك الذين أسهموا في تأسيس المجلس الوطني السوري، ومن ثم الائتلاف؛ اجتماعات تخصص للمراجعات الجادة والمقاربات النقدية المعمقة، وتناول الأخطاء التي كانت بغية اتخاذ الإجراءات التي تضمن عدم تكرارها، وإبراز نقاط القوة من أجل البناء عليها.
أما أن تعقد الاجتماعات بهدف تشكيل أجسام جديدة بالعقليات ذاتها التي كانت سببا في الفشل، والأدوات غير المجدية عينها، ومن دون أخذ الظروف المستجدة على مختلف المستويات المحلية والإقليمية والدولية التي كانت على مدى أكثر من 12 عاماً، فهذا معناه إضاعة الوقت والجهد، ومن دون التوصل إلى المنشود؛ وكل ذلك لا يساهم في تعزيز الثقة، بل على العكس من ذلك يؤدي إلى التباعد، وتبديد رصيد القواسم المشتركة.
وربما يكون من المناسب أن نشير هنا إلى أهمية التفكير في تأسيس أحزاب وطنية، تقيم في ما بينها التحالفات أو الائتلافات لاحقاً؛ وذلك عوضاً عن تشكيل تحالفات أو ائتلافات عائمة، بين أناس لا يعرفون بعضهم بعضاً بصورة جيدة، وما زالوا تحت وطأة الهواجس القومية والدينية والمذهبية، وحتى المناطقية؛ ولم يتوصلوا بعد إلى قناعة راسخة بأن المشروع الوطني الجامع يستوجب طمأنة الجميع، وإتاحة المجال أمام الجميع للمساهمة والاستفادة.
والأمر اللافت الذي يستوجب التمعّن والتفكير على هذا الصعيد، هو تجدد آمال السوريين مع بداية انتفاضة السويداء الجديدة، واستمرارية الاحتجاجات في مختلف أنحاء المحافظة، وذلك بعد أن فجّرت هذه الانتفاضة سردية سلطة آل الأسد القائمة على الربط بين الثورة السورية والإرهاب، ومزاعم حماية السلطة المعنية للأقليات، من الداخل، وهي السردية التي وقع تحت تأثيرها بعض الكتاب والسياسيين العرب الذين من المفروض أنهم من المعارضين للسلطة المعنية والمنددين بجرائمها. فقد بلغ الأمر بهؤلاء إلى حد التشكيك في صحة أو مشروعية استخدام مصطلح الربيع العربي لتوصيف إرادة الشعوب العربية التي خرجت مطالبة بإسقاط الأنظمة والسلطات المستبدة الفاسدة المفسدة. فقد تناسى هؤلاء حقيقة كون ثورات هذه الشعوب فعلاً بطولياً بكل المقاييس؛ إذ واجهت آلة القتل الفتّاكة، خاصة في سوريا، بصدور عارية وتطلعات محقّة مشروعة نحو الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
ولكن الذي حصل لاحقاً، هو أن مختلف القوى الإقليمية والدولية التي تعارضت مصالحها وحساباتها مع تطلعات السوريين، وتمكّنت في نهاية المطاف من فرض أجنداتها على هيئات المعارضة عبر إغراقها بالميليشيات المسلحة التي تكاثرت تكاثر الفطر، وكل ذلك كان تحت شعارات وأعلام وبأولويات مختلفة متعارضة، لا تتقاطع مع تطلعات السوريين، حتى وصلنا إلى الوضعية التعيسة التي نعيشها اليوم.
لقد أنعشت انتفاضة السويداء الآمل عند السوريين عبر فتح نافذة أمام امكانية حصول حراك شعبي سياسي سوري عام يرتقي إلى مستوى الحدث والتضحيات؛ ويكون بمثابة ديمومة لتطلعات السوريين منذ بدايات الثورة السورية. ومن شأن هذا الحراك، إذا ما بني على أسس صحيحة راسخة، أن يشكل قوة ضغط في مختلف الملتقيات والمحافل الإقليمية والدولية عبر المطالبة بحل عادل يضع حداً لمعاناة السوريين الأليمة في المخيمات وأماكن النزوح. هذا إلى جانب إطلاق سراح المعتقلين، والكشف عن مصير المفقودين؛ وكل ذلك لن يستقيم من دون محاسبة المسؤولين، وفي مقدمتهم رأس السلطة بشار الأسد الذي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكون جزءا من الحل بعد كل الجرائم البشعة التي اقترفها بحق السوريين، ومستقبلهم، ومستقبل بلادهم، ومصير أجيالهم المقبلة.
والآن، وبعد مرور نحو ثلاثة أشهر على تجدد انتفاضة السويداء أو أكثر، نرى أن التفاعل السوري المعارض معها ليس في مستوى المطلوب بكل أسف؛ وذلك سواء من جهة النشاط عبر المظاهرات والاحتجاجات المتضامنة معها، أم من ناحية العمل السياسي الضعيف أصلاً بصورة عامة. بل على خلاف المطلوب، جاءت الصدامات التي شهدتها منطقة دير الزور بين قوى عشائرية محلية، و«قسد» التي تهيمن على المنطقة بمساعدة نسبة مرتفعة من أبناء المنطقة العاملين ضمن صفوفها إلى جانب بعض القوى العشائرية المتحالفة معها، وبرعاية أمريكية كما هو معروف للقاصي والداني؛ لتغطي على أخبار انتفاضة السويداء وتفاعلاتها، والآمال التي كانت معقدوة عليها.
والجدير بالذكر هنا هو أن الاحتجاجات العشائرية ضد «قسد» استندت إلى مطالب مشروعة خاصة بالسكان المحليين، إلا أنها اُستغلت في الوقت ذاته من قبل جماعات مرتبطة بالسلطة الأسدية، والقوات الإيرانية وأذرعها الميليشياوية المتواجدة في المنطقة، وهي القوى التي تتبادل الرسائل من حين إلى آخر مع الأمريكان عبر مواجهات ميدانية محسوبة، أو عمليات قصف بالمسيرات من جانب القوى التابعة لإيران على القواعد الأمريكية، ورد أمريكي محسوب سواء بالمسيرات أم بالطيران الحربي كما حدث قبل أيام؛ غير أن كل ذلك يتم ضمن إطار هوامش اللعبة السارية المفعول حتى الآن؛ ووفق قواعد الاشتباك المتبعة من قبل الطرفين.
ثم كان التصعيد غير المسبوق في غزة بعد تهدئة الأوضاع في منطقة دير الزور، فأصبح الموضوع الفلسطيني محور الاهتمام العالمي سياسياً وإعلامياً؛ وهُمّشت، ولو وقتياً القضية السورية وغيرها من القضايا الإقليمية والدولية كما أشرنا إلى ذلك في بداية المقال.
ولكن في جميع الأحوال يبقى الموضوع السوري من مسؤولية السوريين في المقام الأول؛ فهو موضوع يمس حياتهم بصورة مباشرة على المستويين الخاص والعام؛ ويحدّد ملامح مستقبل بلدهم من جهة البنية والطبيعة والدور والمكانة؛ ويتحكّم بماهية الآفاق أمام أجيالهم المقبلة.
وسوم: العدد 1058