ما الذي تعنيه مذكّرة التوقيف القضائية الفرنسية بحق بشّار الأسد؟
أصدر القضاء الجنائي الفرنسي قبل أيام مذكّرة توقيف بحقّ رئيس النظام السوري بشار الأسد وشقيقه، القائد «الفعلي» للفرقة الرابعة، ماهر الأسد والجنرالين غسان عباس، أحد مدراء مركز البحوث العلمية، وبسام الحسن، المستشار الرئاسي للشؤون الإستراتيجية، بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، عبر استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في غوطتَي دمشق صيف العام 2013، حيث قُتل أكثر من 1400 شخص.
إصدار المذكّرة جاء بعد عامين من التحقيق في الشكوى التي تقدَّمَ بها في باريس «المركز السوري للإعلام وحرية التعبير» بدعمٍ من مؤسسات «الأرشيف السوري» و«مبادرة عدالة المجتمع المفتوح» و«منظمة المدافعين عن الحقوق المدنية» و«رابطة ضحايا الأسلحة الكيميائية».
وسبق للقضاء نفسه أن أصدر قبل عام تقريباً مذكرّة توقيف بحق الجنرالات علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود بتهم تتعلّق بالإخفاء القسري والتعذيب والقتل تحت التعذيب راح ضحيّتها آلاف السوريين، بينهم مواطنَان فرنسيّان (مزدوجَا الجنسية) هما مازن وباتريك دبّاغ. وقررت محكمة الجنايات في باريس مقاضاة الجنرالات المذكورين غيابياً في جلسات ستُعقد ابتداءً من أيار/مايو العام 2024.
وتشكّل مذكّرة التوقيف بحقّ الأسد أول قرار من نوعه تجاه رئيس دولة يصدر عن محكمة وطنية يتيح لها مبدأ الولاية القضائية العالمية، ضمن ظروف محدّدة، التحقيق في الجرائم المُصنّفة ضد الإنسانية، بمعزل عن موضع ارتكابها. وهو بلا شكّ سابقة مهمّة يمكن البناء عليها والسعي الحقوقي لمقاضاة متّهمين في جرائم حرب وفي انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني.
مصداقية فرنسا المتراجعة ومبدأ استقلالية القضاء
على أن مذكّرة القضاء الجنائي الفرنسي جاءت في وقت تَرتكب فيه آلة القتل الإسرائيلية جرائم حرب يومية وجرائم ضد الإنسانية ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، مدعومة سياسياً من حكومات غربية، في طليعتها أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا. وهذا بالطبع شكّل لِكثرٍ مناسبةً للتشكيك بمصداقية المذكّرة القضائية الفرنسية ولفتح باب الكلام عن ازدواجية المعايير، وهو أمر مشروع في السياسة، لكنه يُغفل عن عمد أو عن جهل أن المواقف الحكومية في الدول الغربية شأنٌ، وعمل القضاء ومعظم أجهزته شأنٌ آخر.
فالقضاء مستقلّ إلى حدّ بعيد، خاصة على هذا المستوى من الاختصاص، والملف المرتبط بالجريمة الكيميائية يجري العمل على أدلّته وجمعها والتدقيق فيها منذ سنوات طويلة (وتحديداً منذ قصف النظام لحيّ جوبر الدمشقي بغاز السارين في ربيع العام 2013 وتهريب عيّنات من التربة هناك ومن شعر ودم الضحايا حلّلتها المختبرات الفرنسية والأوروبية)، وبجهد خبراء وحقوقيين وشهود بينهم الكثير من السوريين ممّن توّجوا مسار العمل بالتقدّم بشكواهم. وهذا كلّه لا علاقة له بمواقف إيمانويل ماكرون وحكومته السياسية السابقة أو الراهنة، المتذبذبة تجاه سوريا والمشينة تجاه فلسطين.
يُضاف إلى ذلك وقبله، أن ارتكاب أطرافٍ لجرائم واستمرار تمتّعهم بالحصانة أو غياب التحقيقات في ما ارتكبوه، ونعني في هذه الحالة إسرائيل بجيشها ومستوطنيها، لا يبرّر أي تمنّع عن أي تحقيق مع أطرافٍ ارتكبوا بدورهم جرائم في أمكنة أُخرى، كما في سوريا. فكل تحقيق وكل إجراء بحقّ أي متّهم بارتكاب فظائع أمرّ مطلوب وينبغي دعمه لأن فيه مساهمة في المعركة الصعبة والطويلة ضد حصانة القتلة والمرتكبين جميعاً.
ويُفيد لهذه الأسباب تحديداً أن يُستفاد من السابقة السورية لبناء ملفّات ورفع دعاوى وِفق الآليات والشروط المُتاحة في فرنسا أو في غيرها من الدول الأوروبية ضدّ المسؤولين الإسرائيليين، تواكب الدعاوى المقدّمة أو طلبات التحقيق المطلوبة من المحكمة الجنائية الدولية بحقّهم.
مذكّرة التوقيف والتطبيع مع النظام
بموازاة ما ورد، تتخطّى هذه المذكّرة القضائية الفرنسية، بعد مذكّرات سابقة ومحاكمات جرت وتجري في ألمانيا ودعاوى مرفوعة في السويد وسواها، وبعد قرار فائق الأهمّية اتُّخذ مؤخراً في محكمة العدل الدولية في لاهاي قبولاً بالدعوى الهولندية والكندية المرفوعة ضد النظام السوري لممارسته التعذيب والقتل الممنهج والاغتصاب وإخفاء المعتقلين، تتخطّى إذاً في معانيها ومؤدّياتها الحقل القضائي، ولّو أنه يبقى الأساس، نحو حقول سياسية وثقافية.
فهي أوّلاً تُعيد التذكير بالجرائم التي ارتُكبت ضدّ السوريين (وضد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا) في حرب وعمليّات قمع وصل فيها التوحّش في ممارسات النظام الأسدي وحلفائه (كما في ممارسات داعش وبعض الفصائل) إلى حدود غير مسبوقة. وهذا ضروريّ لمنع النسيان من ابتلاع صور الضحايا وآلامهم بسبب مرور الوقت أو احتلال حروب جديدة واجهة الأحداث وما فيها من كوراث وجرائم.
وهي ثانياً تضع الضغط من جديد على نظامٍ راهنَ على أن تطبيع دول عربية (خليجية بالأخصّ) معه سيفكّ من عزلته الدولية وسيُتيح لمُروّجي التطبيع معه في الغرب ومُبيّضي صورته الدفع نحو ترميم العلاقات تدريجياً معه، واللجوء إلى مقولات «التعاون الأمني» و«عودة اللاجئين» و«إعادة الإعمار» للبدء برفع العقوبات التي تُعيق حصوله على «استثمارات» ومساعدات تُعينه على ترسيخ سلطته وتوزيع المغانم على أركانه (في ما يتخطّى تقاسمهم اليوم ما يدرّه «الكبتاغون» عليهم من أموال). فإذا بمذكّرة التوقيف تأتي لتُفرمل كلّ هذا وتجمّده أو على الأقلّ تؤجّله في انتظار تطوّرات جديدة.
وهي ثالثاً تُتوّج جهوداً في التوثيق والمتابعة القانونية وتترجمها إلى قرار قضائي من شأنه أن يُبقي الثقة عند الموثّقين والناشطين في المجال الحقوقي بأهمّية عملهم وضرورة الاستمرار به، إن في ما خصّ سوريا أو في ما خصّ بلداناً ومجتمعات تُخاض فيها وضدّها الحروب، كما فلسطين، وتتفاقم حالات العنف والخروج على القانون الدولي الإنساني في يوميّاتها.
بهذا المعنى، لا ينبغي التردّد في القول إن إصدار المذكّرة القضائية الفرنسية استثنائي الأهمّية، ونادرة هي القرارات التي تُشبهه لجهة استهداف متّهم بفظائع ما زال يمارس مهامه كرئيس للدولة حيث ارتُكبت انتهاكاته وساد على مدى عقود إفلاتُ نظامه من كلّ عقاب. وإذا كان تطبيقها أو الانصياع لها متعذّراً في المرحلة الراهنة وفي المستقبل القريب، خاصة وأن العديد من الدول الداعمة للنظام السوري أو غير المعنيّة بقرارات القضاء الفرنسي لن تتجاوب معها، إلا أن احتمالات التعاون القضائي بين فرنسا ودول أخرى مهتمّة بموضوع الشكوى قد تُضاعف من أهميّتها وتُشجّع ضحايا كثيرين على الإدلاء بشهاداتهم متخطّين الحذر والخوف اللذّين تتسبّب بهما حصانة المجرمين الطويلة.
يبقى القول إن طريق العدالة طويل وشائك وغير مضمون، لكن التشكيك المسبق به، أو خلط المسارات السياسية بتلك القانونية، أو إيثار مسلك المظلومية على مسلك العمل الحقوقي والتوثيقي الجاد، أو ربطه بشرطيّة العدالة ومقتضياتها في باقي الساحات والحالات لا يُجدي نفعاً. فليس أهمّ اليوم، في ظلّ موازين القوى القائمة في العالم، من السعي في كل المحافل لتهشيم مناعة أنظمة الحكم القاتلة والمحميّة من أقوياء، من سوريا إلى إسرائيل…
وسوم: العدد 1059