حرب عالمية مقلوبة على رأسها
حجم قطاع غزة في خريطة فلسطين لا يزيد على 2 في المئة من فلسطين، وحجم فلسطين على خريطة العالم ودوله لا يُرى بالعين المجردة، ومع ذلك تندلع حرب بين قطاع غزة من جهة، وبين أمريكا والكيان الصهيوني وأوروبا، من جهة ثانية، الأمر الذي يعني بأن العالم الغربي يشنّ حربا عالمية ضد منطقة صغيرة، وصغيرة جدا، علما أن الحروب العالمية تشنّ ضد دول كبرى، ذوات جيوش جرارة، وسلاح متفوق، الأمر الذي يعني أن أمريكا والغرب يشنون حربا عالمية عجيبة تقف على رأسها.
والغريب أن هذه الحرب العالمية لم تستطع، بعد 36 يوما، أن تحقّق هدفها العسكري في القضاء على حماس في قطاع غزة، بل لم تحقق إنجازا عسكريا واحدا على هذا الطريق، وذلك بالرغم من كل محاولات الاقتحام بمئات الدبابات والمدرعات (يقال إن العدد 1300)، فضلا عن المشاة المفترض بهم القيام بالاقتحامات الراجلة. ولكن القيادة الصهيونية لم تعبأ بهذه الحقيقة، ولا بالضغوط التي مورست ضدها، وبقيت مصرّة على الحرب البريّة، والحرب على المدنيين
يفترض بأن يكون هدف القضاء على حماس، المقاومة العسكرية في قطاع غزة، في متناول يد الجيش الذي سبق أن احتل في خمسة أيام عام 1967، قطاع غزة، وسيناء، والجولان، والقدس والضفة الغربية، وسبق له أن أنهى وجود المقاومة الفلسطينية بقيادة م.ت.ف في لبنان عام 1982. ولكن ها هو ذا شهر كامل قد مضى عليه وهو يحاول إنجاز هذا الهدف، بلا نتيجة تذكر، وبلا مؤشر يؤكد بأنه في الطريق لإنجاز الهدف.
لقد لجأ بدعم أمريكي، وغطاء أوروبي، إلى شنّ حرب موازية استهدفت قتل المدنيين بلا هوادة، وسوّت أحياء بكاملها بالأرض بلا رادع، وأمعنت في الاعتداء على المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات، بلا مراعاة للقانون الدولي، واتفاقيات جنيف الرابعة، أو لحقوق الإنسان، ولقِيَم الأخلاق، وللأعراف الواجب احترامها في الحروب.
هذا كله لم يُسعف قادة الكيان لتحقيق الهدف، ولم يشف غليلهم المتعطش لقتل المدنيين الفلسطينيين، إذ ما زالوا، بدعم أمريكي وأوروبي، مصممين على سفك المزيد من الدم، والتوسّع بالتدمير مع الحرمان الكامل من الدواء والماء والغذاء، وصولا إلى تعطيل كل المستشفيات. وبهذا أصبح الشعب في قطاع غزة يخوض حربا دموية إبادية إجرامية، بلا حدود، من غير وجود مستشفيات تمتلك الحد الأدنى من العلاج والإسعاف. وهو ما لم يُواجِه شعبا من قبل، ومع ذلك ما زال الشعب العظيم، محتملا ومحتسبا، بلا حدود كذلك، مما سيتحوّل إلى حبل مشنقة، بأعين الرأي العام، يلتف حول عنقيّ نتنياهو وبايدن، ومن خلالهما لوجود الكيان الصهيوني من حيث أتى، وفقدان الحضارة الغربية في حروبها القادمة للقناع الذي كانت تتقنع به مثل رفع شعارات الديمقراطية، وحقوق الانسان، وحضارة الأنوار والقانون والقِيَم، مع اتهام خصومها بالاستبداد والظلامية والبربرية.
كل هذا أنهته حرب الإبادة وقضت عليه الحرب على المستشفيات، وآخرها ارتكاب جريمة حرب باقتحام مستشفى الشفاء الذي فضح، أيضا كل ما نشر من أكاذيب حوله، شاركت فيها إدارة بايدن.
فكيف يمكن بعد اليوم أن يتحدث الموغلون في جرائم الإبادة وجرائم الحرب، أن يتحدثوا عن محرقة، أو عن استبداد، وظلامية، وبربرية، أو عن ديمقراطية وحداثة، وحقوق إنسان؟
وبكلمة، كسب الشعب الفلسطيني، ومقاومته، وقضية فلسطين، المعركة حول من يكسب الرأي العام، فقد خسر الكيان الصهيوني وقادة الغرب المعركة الأخلاقية والسياسية، والمعركة الحضارية.
إن الكيفية التي ستنتهي بها الحرب البريّة هي التي ستقرّر في النهاية حالة الوضع ما بعد الحرب في قطاع غزة، كما في القدس والضفة الغربية، فضلا عن تأثيرها غير المباشر في الأوضاع العربية والإقليمية والعالمية.
فالانتصار العسكري للمقاومة في المعركة البريّة قد شهدت عليه نتائج المواجهات العسكرية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وما بعدها، فسنجدها بمعدل خسائر مني بها العدو منذ اندلاع الحرب البريّة تدور حول عشر دبابات ومدرعات في كل 24 ساعة، ولوجدنا أن اتجاه الحرب البريّة ماضٍ في مصلحة المقاومة التي أثبتت امتلاكها لزمام المبادرة وبأن يدها هي العليا، وذلك بالرغم مما أحدثه جيش العدو من اختراقات، أو حققه من تقدم هنا وهناك في أرض الميدان.
إن القانون العسكري الحاكم لمعادلة المعركة البريّة، يتمثل في تحوّل كل تقدّم يحرزه جيش العدو إلى فخ، أو إلى هدف يقترب من صواريخ الياسين 105، ومن انقضاض المقاومة على دباباته وراجلته.
صحيح أن المقاومة محاصَرة ولا عمق لها، من حيث الأرض والمكان والمعابر، وصحيح أن القصف الجوّي الجنوني الإجرامي مستمر ليلا نهارا، وبلا تقطع، الأمر الذي يشكل عوامل سلبية تمسّ الخوف من نضوب المخزون المتعلق بالذخائر والماء والغذاء والدواء، وما تحتاجه الجبهة من الإمداد، ولكن تعويض ذلك يتمثل في ما أعدته قيادة المقاومة من أنفاق، واستعدادات لحرب طويلة، فضلا عن الحصافة وبُعد النظر، في الاقتصاد بكل ما ينضب.
هذا كله غير مبني على معلومات، عدا ما شاع حول الأنفاق، وعدا ما يمكن استنتاجه من التجربة الأخيرة، خصوصا في قيادة الحرب وإدارتها طوال الوقت. وهو ما يشكل ردا على كل الأفكار المثبطة، أو ما يتضمنه إعلام العدو، أو الإعلام الغبي، والأحكام النابعة من نظرة قاصرة لا تستطيع أن تقرأ ما وراء السطور؛ في واقع يتضمن كل العناصر التي تغري بالتشاؤم والهزيم، كما يتضمن كل العناصر التي تسند التفاؤل بالوقائع والمعرفة في المسارات التي أخذتها حروب سابقة، أو يمكن أن يتخذها مسار هذه الحرب، مهما بلغت الصعوبات الداخلية أو الذاتية.
إن الحرب في قطاع غزة ليس كمثلها حرب؛ لا من حيث جغرافيتها، ولا من حيث أطرافها المتصادمة، ولا من حيث الحرب الموجهة ضد المدنيين والأبنية السكنية والأحياء، أو الحرب البريّة ومواجهتها. ولو أخذنا بعدا من أبعاد هذه الحرب، وهو البُعد المشكّل من "الجيش الإسرائيلي"، والأساطيل الأمريكية الجويّة، والبحرية المنخرطة عمليا في هذه الحرب، مقابل قوات عز الدين القسّام أساسا، وسرايا القدس وثلة من المقاومين من فصائل فلسطينية في قطاع غزة، لوجدناها حربا عالمية من طرف، وما هي بحرب عالمية من الطرف المقابل، مما يجعل انتصار طرف المقاومة مأثرة تاريخية، وأعجوبة ومعجزة في تاريخ الحروب، قديما وحديثا في العالم.
أما من جهة أخرى، أمريكا مثلا، فخسارتها ستكون عالمية، وكسبها للحر -معاذ الله- وفرضا، لن يكون لها بنصر، إلاّ على مستوى ثلة المقاومين، وليس على مستوى عالمي، لأن منافسيها الكبار الصين وروسيا وإيران وجنوب أفريقيا والهند وأوروبا، لن يؤثر بهم انتصارها بشيء، عدا عن أن هزيمتها في مصلحتهم.
أما الوضع الفلسطيني بما فيهه مقاومته المسلحة والقضية الفلسطينية برمتها، وحتى حركة الجهاد والشعبية وحماس نفسها، فإن الشعب الفلسطيني سيمسح عرقه ويبدأ من جديد، كما حدث دائما. فالحرب بالنسبة إلى أمريكا عبثية خاسرة، ومقلوبة على رأسها، ولا قيمة لها، غير إنقاذ الكيان الصهيوني من الهزيمة. ولكن الكيان سيبقى مريضا عليلا متداعيا، ولن يعود إلى "شبابه" أو سيرته الأولى.. فمن يشيخ لا يعود إلى شبابه، مهما حقن بالفيتامينات والمقويّات.
وسوم: العدد 1059