إعادة تصويب الخطاب الفلسطيني بعد 7 أكتوبر
ما قبل 7 أكتوبر يختلف عمّا بعده، عبارة يرددها الكيان الصهيوني والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة وعدد من الدول العربية. ولكن الأهم من كل هؤلاء أن يعتمد الفلسطينيون الآن خطابا جديدا، بعد كل هذه التضحيات يقوم على أساس أن ما قبل 7 أكتوبر يختلف تماماً عمّا بعده. فلا يجوز أن نعيد الخطاب السابق ونبقى ندور حول أنفسنا نتكلم عن حل الدولتين وعملية السلام والمفاوضات والمجتمع الدولي والقانون الدولي، أمام ما حصل في غزة منذ ذلك التاريخ، وكأن شيئا لم يكن.
هنا مجموعة من الاجتهادات تهدف أساسا إلى نشر خطاب ومصطلحات ومواقف ولغة جديدة يتبناها الفلسطينيون وينشرونها صوتاً وصورة وكتابة وتغريدة ومنصة وثقافة. لابد من توحيد الخطاب باتجاه العرب والعالم. فحرب الإبادة التي انطلقت يوم 7 أكتوبر تجُبّ كثيراً من المسلمات مما قبلها. فكما كانت معركة بدر فاتحة لانتصار الإسلام، ومعركة ليننغراد بداية لانهيار النازية، ومعركة الكرامة إيذانا بانطلاق مرحلة الكفاح المسلح ومعركة مايو 2000 إغلاقا لملف الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان، يجب أن تكون حرب الإبادة بداية من 7 أكتوبر انطلاقة لمرحلة جديدة، تتطور معالمها وغاياتها معا. ولتحقيق ذلك لابد من الاتي:
أولا- يجب ألا تستخدم مفردات مثل حرب غزة، أو حرب إسرائيل وحماس، بل يجب أن نتبنى مصطلحات متشابهة تؤكد أنها حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني بكامله. فمن يقصف المدنيين والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والمعالم المدنية والمباني السكنية والبيوت، ويهجر نصف الشعب في غزة ويلاحق الفارين من بيوتهم بالقذائف الفوسفورية، لا يقاتل حركة حماس، أو فصائل المقاومة، بل يسعى إلى تدمير الشعب الفلسطيني بكامله على طريقة «الحل النهائي». وكما وظف الصهاينة المحرقة واستثمروها وحولوها إلى صناعة، كما جاء في كتاب «صناعة الهولوكوست» للباحث اليهودي الشجاع البروفيسور نورمان فينكلشتين، فعلى الفلسطينيين أن يستخدموا مصطلحات حرب الإبادة على غزة، أو مجازر غزة أو محرقة غزة. لكن علينا أن نتجنب كلمة حرب، إلا إذا لحقت بها كلمة الإبادة. فالحرب تكون بين جيشيين وبلدين وقوتين، وليس بين مقاومة وشعب أعزل وجيش من أكثر جيوش العالم تطورا وقوة وتسليحا، يستند إلى قوة ردع نووية ودعم غير محدود من القوى الاستعمارية القديمة والجديدة.
لقد سقطت الدول الغربية في الاختبار، فلا يقبل منهم بعد 7 أكتوبر دروسا في حقوق الإنسان وحرية التعبير وحرية التجمع وسيادة القانون.
ثانيا- على الفلسطيني ان لايخجل من الدفاع عن المقاومة التي هي حق شرعي منصوص عليه في القانون الدولي للسكان الواقعين تحت الاحتلال والهيمنة الأجنبية. هذا حق غير قابل للتصرف، وقد مارسته جميع شعوب الأرض التي وقعت تحت نير الاستعمار والاحتلال الأجنبي، بدءا بالولايات المتحدة وصولا إلى جنوب افريقيا. كل الشعوب التي ناضلت ضد الاستعمار اكتسبت قياداتها شرعية ثورية أهلتهم لقيادة بلادهم بعد الاستقلال، في الوقت الذي اتهموا من قبل قوى الاستعمار والهيمنة الخارجية بأنهم يمارسون الإرهاب كما فعلوا مع نيلسون مانديلا. صحيح أن هناك قواعد يجب مراعاتها حتى في حرب الشعب والكفاح المسلح والمقاومة، لكن كل حركات التحرر بلا استثناء خرجت عن قواعد المقاومة لكثرة الجرائم التي يرتكبها المحتلون والمستعمرون. كما فعل جيش التحرير الأيرلندي في شوارع وساحات لندن، وكما قال الثائر الجزائري العربي بن مهيدي، في محاكمته (كإرهابي بالنسبة للاستعمار الفرنسي): «أعطونا طائراتكم ونعطيكم قففنا».
ثالثا- لقد سقطت الدول الغربية في الاختبار، فلا يقبل منهم بعد 7 أكتوبر دروسا في حقوق الإنسان وحرية التعبير وحرية التجمع وسيادة القانون. الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الأساسيون، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، شركاء في حرب الإبادة، فقد هرعوا جميعا لنجدة الكيان محملين بالأسلحة ووجهوا صواريخهم وحاملات طائراتهم وأساطيلهم وغواصاتهم لحماية الكيان المنهار ودعمه في انتقامه الأعمى من غزة الواقعة تحت الاحتلال منذ 56 سنة والحصار منذ 16 سنة. فاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 تصنف في نقطتها الثالثة من الذين تطالهم العقوبات في هذه الجريمة، مرتكبي الإبادة الجماعية والمتآمرين على ارتكابها والمحرضين عليها مباشرة وعلنا، والمحاولين لارتكابها والمشتركين في الإبادة. إذن لا اجتهاد مع النص. ينبغي أن تظهر هذه الحقيقة في كل فرصة وأن يلغي من الوعي الجماعي أن هذه المنظومة الاستعمارية قد تلعب دوراً إيجابياً في القضية الفلسطينية.
رابعا: عدم التعويل على المجتمع الدولي الذي سقط في الامتحان، فلا مجلس الأمن ولا الجمعية العامة تمكنا من وقف المجازر، لقد اصطف مسؤولو الأمم المتحدة الكبار وراء الرواية الإسرائيلية في موضوع الإرهاب، وجرائم الحرب، وتسمية حماس بالاسم، بمن فيهم الأمين العام أنطونيو غوتيريش، غالبيتهم الساحقة تجنبوا إدانة جرائم إسرائيل بالاسم ولم يطالبوا بوقف شامل لإطلاق النار، ولم يتطرقوا إلى مصطلحات الإبادة الجماعية، أو جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية. كما غاب كثيرون عن المشهد مثل فرجينيا غامبا ممثلة الأمين العام للأطفال والنزاعات المسلحة، والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان. لا بد من شكر كل من بوليفيا وفنزويلا وجنوب افريقيا وبنغلاديش وجزر القمر وجيبوتي، التي قدمت طلبات للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في ارتكاب إسرائيل للجرائم الأربع التي ينص عليها نظام روما الأساسي.
خامسا: ينبغي في أي خطاب عدم الإساءة لليهود، بل أن يكون الخطاب محصورا في الصهيونية والكيان الصهيوني والحكومة الفاشية في الكيان. فمئات الآلاف من اليهود خرجوا في الشوارع للانتصار لفلسطين، وشكلوا عشرات الجمعيات مثل «ليس باسمنا» و «أصوات يهودية من أجل السلام» وغيرها الكثير. لقد كانوا أكثر جرأة وتأثيرا في مجاهرتهم برفض الحرب والدعوة لوقف إطلاق النار. كما نرفض أن يكون نضالنا ضد الصهيونية والعنصرية رديفا لمعاداة السامية. إن نقد الصهيونية والسياسيات الإسرائيلية القائمة على الاستيطان والاحتلال والحصار والتدمير والاستيلاء على الأرض، لا يعني على الإطلاق وليس له علاقة بمعاداة السامية. إن رفع فزاعة معاداة السامية ما هي إلى وسيلة لإسكات المنتقدين لتصرفات الكيان الصهيوني من جهة، وضرب التأييد المتصاعد للقضية الفلسطينية العادلة. فلا يتردد أحد في نقد الصهيونية والحكومة الفاشية، وفي الوقت نفسه، ألا يتطرق لموضوع اليهود، فنورمان فلنكشتين وفيليس بينيس وجدعون ليفي وإلان بابيه ونعوم تشومسكي، ناضلوا في هذه الحرب أكثر من بعض الدول العربية.
سادسا- ينبغي أن تقوم الاستراتيجية الفلسطينية على التحالف مع الشعوب ومنظمات المجتمع المدني وأنصار السلام في كل البلدان وليس مع الأنظمة. لايسمح الوضع اليوم بفتح جبهة جديدة مع أي نظام، إلا إذا كان سيرتكب الخيانة العظمى بالعمل على تدمير القضية الفلسطينية والمساومة على حقوقنا والاصطفاف مع العدو. نقد تطبيع الأنظمة وتبرئة الشعوب منه. لقد ضرب الشعب المغربي أعلى نموذج في التضامن مع فلسطين والمطالبة بإلغاء اتفاقيات التطبيع.
سابعا- رفض ما يعممه الكيان والدول السائرة في فلكه، بأن تاريخ الصراع بدأ يوم 7 أكتوبر. هذا تزوير للحقائق وحرف للنقاش. يجب التأكيد على المحطات الرئيسية في الصراع بداية من وعد بلفور، مرورا بالنكبة وتشريد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني وصولا إلى الاحتلال عام 1967. حفظ كل تاريخ المجازر والحروب التي شنها الكيان واعتداءاته المتواصلة ليس فقط على الفلسطينيين، بل وعلى معظم الدول العربية مثل الأردن وسوريا ولبنان ومصر والعراق وتونس وغيرها. هذا كيان عنصري قائم على المجازر والتهجير والقتل والاغتيالات والتدمير، والاستيلاء على الأرض وطرد السكان وبناء المستوطنات وتوسيعها، قبل عقود من 7 أكتوبر.
وأخيرا، الوحدة الوطنية الفلسطينية قائمة وتجسدت في دعم المقاومة والاصطفاف تماما خلفها. هناك فئة اغتصبت السلطة تتعاون مع العدو وتنسق معه وتعتقل المناضلين لا علاقة لها بشعبنا وهمومه وتضحياته، لكن الباب مفتوح للعائدين إلى أحضان الوطن والانضمام إلى شرفاء شعبنا ومقاومته الباسلة، لا مكان للمواقف الرمادية واللغة الخشبية والاستنجاد بالمجتمع الدولي، لقد برزت وجوه وأصوات مناضلة، اسميا تنتمي للسلطة، ولكنها حقيقة جزء من النضال الشعبي الفلسطيني ومكانها محفوظ مع قوائم الشرف والنضال. الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الحصري في تقرير مصيره، ولا يقبل دروسا من أحد، وليس من حق رؤساء دول عربية أو أجنبية أو مسؤولين دوليين، أن يقرروا عن الفلسطينيين نوع الحكومة التي يريدون وشكل السلام والدولة والمستقبل. على هؤلاء الحكام أن ينتبهوا لمصائب بلادهم والتهديدات الوجودية لها من الكيان الصهيوني وغيره من دول الجوار، لقد نزع الشعب الفلسطيني منذ زمن ثوب الوصاية وهو الذي يكتب التاريخ الآن بدم أطفاله وأشلاء نسائه وبنادق مناضليه، والمستقبل لمن صدق وليس لمن سبق.
وسوم: العدد 1060