السيسي وحرب غزة: الرجل الضئيل والتحديات العظيمة
بالفعل لقد صمت طويلاً، دهراً بأكمله، حتى وصل إلى رتبة فريقٍ وقاد انقلاباً دموياً، ولم يزل ينطق عبثاً منذ ذلك الحين؛ كأنه كان في مرارته الصامتة التي لزمها واحتضنها طويلاً كشخصٍ ضئيل مهجوسٍ بالبقاء بألا يغضب أياً من رؤسائه وقادته، كان ينتظر ويحلم بالفرصة التي يتكلم فيها فيستمع له الناس ويتحينها، لذا ومنذ الانقلاب، لم يتوقف عن الحديث، كأنه يهنئ نفسه بأن سياسة الصمت والتقية تلك مقترنةً بحنكته ولؤمه الأصيل، قد أوصلته إلى ما لم يكن يحلم به، ولا يتصوره أقرب الناس إليه، يُضاف إلى ذلك بالطبع تلك النشوة المسكرة المحلقة، التي نستطيع أن نتخيلها لشخصٍ ضئيلٍ محدود المعرفة والمواهب، قَدِم من اللاشيء، من العتمة العميقة إلى دائرة الضوء الأكثر إبهاراً، إلى قمة هرم تلك الدولة العتيقة، حيث المتربع شبه إله بما أطاش صوابه تماماً، وأفقده اتزانه، ولنا فقط أن نحاول تصور ما قد ينتج عن تلاقي الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوارثة المتراكمة المتزايدة (بما فيها إسهاماته المجيدة بالطبع) لبلدٍ كمصر بتلك الرأس: العجب العجاب بالطبع.
السيسي لم يتردد أو يخجل من أن يقارن بلداً مستقلاً بحجم مصر بغزة المحاصرة المجوعة التي تتعرض لأطنان المتفجرات، والتي يسهم هو شخصياً ونظامه في خنقها
والحقيقة أن ما بدأ ولم يتوقف منذ انقلابه، من قمعٍ وتخبطٍ وسفهٍ وتضخمٍ وتبذيرٍ وحماقةٍ وتفريطٍ يفوق كل خيال؛ إلا أنني لا بد أن أعترف، بأنه على الرغم من كل ذلك، وكلما تصورت أنني بلغت معه المدى، ورأيت منه أقصى ما يمكن تصوره، فإنه يثبت المرة تلو الأخرى، أنه لم يفقد أبداً قدرته على إثارة دهشتي العميقة.
آخر ما أتحفنا به هو ما استخلصه من الحكمة وقطره من العبرة والعظة في شأن حرب الإبادة الوحشية لأهلنا في غزة، إذ لم ير فيها أكثر من درس أو وسيلة إيضاح للمصريين بأن يكفوا عن الشكوى من غلاء الأسعار، إذ في نهاية المطاف السلع متوفرة وإن غلت، في تناقضٍ صريح مع الوضع في غزة، حيث تنعدم ويتعذر، بل يستحيل إيصالها.
لا أحسبنا نبالغ (أو أن هناك مجالاً لاتهامنا بذلك) في ما وصلنا إليه من قناعة منذ زمنٍ طويل بأن السيسي، بعد أن فُكت عقدة لسانه، كما أسلفنا، صار لا يراجع نفسه ولا يمارس أي نوعٍ من الرقابة الذاتية على ما ينزلق من لسانه، وقد كفانا مشقة التكهن وضرب الأخماس في الأسداس، إبان الحملة التي شنها عليه المقاول محمد علي حين قال، إن الأجهزة الأمنية كادت أن تقبل قدمه، أن يحجم عن التطرق لهذه الاتهامات ـ لكنه، بعلاقته الخاصة جداً بالله التي لم يقصر ولم يبخل بإخبارنا بمدى متانتها وعمقها حتى أن الله، في زعمه، يتبادل معه الحوار ـ لم ينصع لهم ولم يأبه لنصائحهم. المهم، لعل غياب الضبط والتريث هذا مفيدٌ للغاية، إذ أنه يكشف لنا ما يدور في ذهنه، ولما كان من الناحية الفعلية الآمر الناهي، وأن القرار السياسي (إن جاز لنا أن نقرنه بأي شيءٍ ذي علاقة أو قريب من كلمة «سياسة») في يده وحده، فهو بذا يكشف لنا، دون مواربةٍ أحياناً، عن كيف يدار هذا البلد وتُتخذ القرارات. عن ماهية الأولويات وطريقة تقييم المستجدات والمتغيرات السياسية، والأهم التعامل معها، خاصةً في الأزمات الكبيرة والوجودية، حيث تتسرب إليه فيستشعر، على بلادته ومحدودية مداركه، شيئاً من الخطورة، أو ربما ينجح بعض من حوله في توضيح وإيصال مدى الخطورة. الأكيد والثابت في قناعتي الشخصية أن السيسي، منذ البداية، متسقٌ للغاية مع نفسه وأولويات نظامه والطبقة والأنظمة التي دعمته ومولت انقلابه، وأوصلته إلى سدة الحكم، وكان واضحاً للغاية أيضاً لولا الغشاوة التي أنزلتها على العيون الرغبة، بل التوق العميق الجارف، لدى الناس لتصديق الأكذوبة عن البلد العظيم «الأكبر من الدنيا». لم يخفِ السيسي في شأن الحرب الدائرة أن هاجسه الأساسي «خطه الأحمر»، هو أن تمتد هذه الحرب إلى سيناء ولم ير فيها صراعاً وجودياً يخوضه شعبنا المحاصر، وتمرداً وثورةً تحرريةً على الاحتلال والظلم والتجويع، حلقةً في نضال شعبنا؛ هو لم ير في ذلك سوى عبرةٍ وعظة «ليحمد المصريون ربهم» ويرضوا بـ»نصيبهم»، وما قسم لهم، كأن سياساته الاقتصادية الحمقاء لا علاقة لها البتة بوضعهم البائس. وبالطبع لزم التنويه بأن هاجس أو خوف الامتداد إلى سيناء ليس وراءه، الهم السيادي كما يزعم، بل أمن النظام أولاً وأخيراً، إذ لو كانت السيادة على الأرض هي الهم الأكبر لما فرط في جزيرتي تيران وصنافير. بطبيعة الجغرافيا وما نجم عنها من أحداثٍ عبر آلاف السنين صارت تاريخاً مؤسِساً وما تخزنه هذه الجغرافيا من ثرواتٍ على رأسها الطاقة، فإن هذه المنطقة من أهم مناطق العالم (إن لم تكن أهمها على الإطلاق)، وليس من الوارد أن تنعم برفاهية أن تنشغل بحالها فتُترك وشأنها كما يتمنى السيسي ومن وراءه، بأن يتركوا يحكمون ويستمتعون بالسلطة والمال، بل هناك مصالح تمر عبر وتتقاطع مع هذه المنطقة من العالم؛ لن أقول مؤامراتٍ تحاك، بل مصالح، وهناك بلدان كمصر تعاني من مشكلات مزمنة نتيجة الاستبداد والفقر والهزائم والخيبات المتتالية، لقد اندلعت الثورات في هذه المنطقة نتيجة تراكم المشاكل والاستعصاءات، وترهل الأنظمة وبلى الأُطر، التي كانت تحتوى التناقضات وتحاول السيطرة عليها أو التخفيف من حدتها، لكن للأسف فإنه في غياب الإعداد والتنظيمات الثورية ظلت الأنظمة بأجهزتها، على رداءتها، هي الأقوى ونجحت في إدارة الثورة المضادة وإعادة إنتاج نفسها، لكن ذلك لم يعنِ أنها تطورت بأي حالٍ من الأحوال، بل الشاهد أن ذلك زاد من جملة من الدوافع والسلوكيات المتضاربة والفوضوية: شعورٌ بالصلف والمنعة من ناحية وسعارٌ في مراكمة الثروة لا يصدر إلا عمن يشعر بأنه يلعب في الوقت الضائع ورغبةٌ عارمةٌ للانتقام.
والنتيجة أننا نعيش معركة تحررٍ ضارية ودامية يخوضها شعبنا في فلسطين والتحديات عظيمة على كل الأصعدة، والتضخم والتردي الاقتصادي وتدهور مستويات المعيشة في تزايدٍ، دون أي حلٍ في الأفق، إلا أن القيادة ممثلةً ومتركزةً في شخص السيسي دون مستواها بمراحل، وليس لديه أي منجزات سوى أن هناك من هم أسوأ حالاً منه، بدأها بسوريا وختمها بغزة الآن، ولم يتردد أو يرى غضاضةً أو يخجل من أن يقارن بلداً مستقلاً بحجم مصر بغزة المحاصرة المجوعة التي تتعرض لأطنان المتفجرات، والتي يسهم هو شخصياً ونظامه في خنقها. لقد انتهت صلاحية النظام المصري منذ فترةٍ طويلة، وكلما تكلم السيسي أكد لنا مدى إفلاس الطبقة الحاكمة المصرية، بما يؤكد أننا أمام خيارين لا أرى ثالثاً لهما: إما التغيير والاقتلاع من الجذور وتأسيس نظامٍ جديد على أساس الحريات والعدالة الاجتماعية وإما التوحش والسقوط إلى قيعان يصعب تخيل أو التنبؤ بمدى رداءتها.
وسوم: العدد 1068