مركز تكوين…تنوير أم تضليل؟
الخبر يقول: «قام لفيف من علماء الإسلام والدعاة بإنشاء أول مركز يهتم بتعديل وتطوير قوانين ميكانيكا الكم، وأعلن المركز توصله إلى نظريات جديدة لتفسير التراكب الكمي للذرات، يضم هذا المركز نخبة من علماء الإسلام: الشيخ محمد الددو الشنقيطي رئيس مركز تكوين العلماء بموريتانيا، الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر، والشيخ علي القرة داغي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتي عام السعودية».
أجزم أن هذا الخبر الذي صنعه خيالي لو كان صحيحا، لاهتزّ العالم بأسره سخطاً واستنكاراً واستهزاءً، لسبب وجيه لا يخفى على أي إنسان بسيط، وهو السؤال الذي يطرحه العقل: ما لعلماء الدين والحديث عن قضايا لا يفهمها ولا يدركها ولا يحسن تناولها سوى علماء الفيزياء؟ وما هي مؤهلات علماء الدين هؤلاء التي تمكنهم من الخوض في هذا العلم؟
وبلا شك، سيكون لدى هؤلاء المنتقدين والساخطين كل الحق، فينبغي للإنسان أن لا يتجاوز نطاق تخصصه الذي برع فيه، ليدلي بدلوه في علم أو فن ليس من أهله، وإلا كان كما قال الإمام ابن حجر العسقلاني: «من تكلم في غير فنِّهِ أتى بالعجائب»، ولذلك دأب أهل العلم والفتوى على أن يبنوا فتاواهم على آراء المتخصصين من أهل الطب أو الزراعة والاقتصاد وغيرها، إذا كان السؤال عن أمر يتعلق بهذه التخصصات.
ربما أكون قد قلبت المألوف حين أتيت بالرد قبل طرح المستوجِب للرد، وهو كما يتضح من العنوان يتعلق بفتنة جديدة، خرج الاهتمام بها والتفاعل معها من نطاقها الجغرافي، فاجتازت قُطرها الذي نشأت فيه، لتصبح قضية تشغل الأمة بأسرها، ألا وهو إنشاء مركز تكوين، الذي يتشكل مجلس أمنائه من نخبة من المثقفين المصريين المعروفين أمثال إبراهيم عيسى، وإسلام بحيري، ويوسف زيدان من مصر، إلى جانب الكاتبة التونسية ألفة يوسف، والباحث السوري فراس السواح، والباحثة اللبنانية نايلة أبي نادر.
المركز الذي يتحرك تحت مظلة الفكر التنويري، يهدف إلى التأسيس «لجسور جديدة بين الثقافات والفكر الديني، للتوصل إلى صيغة جديدة في النظر والتعامل مع الموروث الديني، باعتبار أن بعض تأويلاته القديمة أدت بالمجتمعات العربية والإسلامية اليوم إلى مآزق اجتماعية ودينية وفكرية»، حسب ما نصت عليه أهداف المركز، الذي سيتولى بهذا الفكر المستنير مواجهة التطرف الديني. نستلهم من الخير المُتخيل الذي طرحته في البداية السؤال ذاته: ما هي مؤهلات هذه الشخصيات من جهة العلم بأحكام الشريعة وأصول الدين وفروعه، حتى يؤسسوا لفكر جديد يتعامل مع الدين (الذي سموه الموروث الديني) بنمط جديد يعتمد على إعمال العقل والمنطق؟ ماذا درسوا من علوم الشريعة؟ ما هي تخصصاتهم؟ ما الذي يعطيهم الحق في أن يتكلموا في غير فنّهم؟ ما الذي حازوه من علم يجعلهم يثورون على ميراث أكثر من 14 قرناً؟ هل عاشت الأمة طيلة هذه القرون في جهل وضلال مبين، ثم جاء هؤلاء الأفذاذ لإنارة الأمة؟ وهل عدمت الأمة علماء الإسلام الذين يفندون الضلالات ويواجهون التطرف الديني ويحاربون الشذوذ الفكري والإرهاب؟ للبعض رأي يقول: لماذا لا تنتظرون النتاج الفكري لهذا المركز، ثم تقومون بالحكم عليه؟ والإجابة على هذا الرأي تتمثل في أمرين:
*الأمر الأول: حملته السطور السابقة، وهي أن هذه الفئة ليست من أهل التخصص، ولا يملكون الأدوات ولا الوسائل لنقد التراث، فعندما يقوم علماء الحديث، وأهل الدراية بعلم الرجال، وأحوال الرواة والجرح والتعديل، بتنقيح أحاديث في كتاب ما، فهذا يقع في نطاق تخصصهم وقدراتهم. وعندما يقوم الفقهاء بمراجعة كتاب من كتب الفقه، وبحث الآراء الفقهية والاجتهادية التي تضمنها، فهذا حقهم ويقع في نطاق تخصصهم.
أما شخصيات مركز تكوين، فماذا لديهم من الأدوات والوسائل والعلوم لنقد التراث والفكر الديني؟ مثال بسيط حول أحد أعضاء مجلس أمناء المركز، يتحدث قبل خمس سنوات عن أبيات شعر من قصيدة شهيرة للشاعر كعب بن زهير:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ مُتيّم إثرها لم يجز مكبولُ
ففسر كلمة متبول بأنها الغمس في التوابل، مع أن المعجمات قد جاء فيها بمعنى السقام والذهول والتعب، تبل الحب فلانا بمعنى أسقمه وأتعبه وذهب بعقله وأودى به إلى الهلاك. هو الشخص نفسه الذي قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) فقرأ «مِقعده» بكسر الميم، مع أن الصواب أن تكون بفتحها، لأنه مضموم العين في المضارع، يقال: قعَدَ يقعُد، ولو بحث في معاجم اللغة جميعها لما وجدها بالكسر. ولا أقول هذا تندراً واستخفافاً أو استعراضا، لكن المقصد: إذا كان هذا حال بعضهم مع اللغة العربية، التي هي الأساس في فهم الكتاب والسنة، فكيف ببقية العلوم.
*الأمر الثاني: يرد على دعاة التريث للنظر في النتاج الفكري لهذا المركز ثم تقييمه، بأنه بمثابة التأكد من المؤكَّد، فهذا المركز يضم شخصيات لها رصيد كبير من الأزمات مع ثوابت الدين، فمنهم من حكم عليه القضاء المصري بالسجن، بسبب ازدراء الدين الإسلامي بالتشكيك في ثوابت الدين والسنة النبوية بزعم التنوير. وآخر سخر من القرآن الكريم علناً، وطعن في الصحابة تصريحاً، وأنكر بعض المعتقدات الإسلامية الثابتة كعذاب القبر.
وغيره أنكر حجاب المرأة ووصفه بالتخلف والرجعية وأنها ليس سوى عادة اجتماعية. وغيره وصف القصص القرآنية بأنها أساطير. كما إن إحدى الشخصيات البارزة في المركز هاجمت من قبل ذبح الأضاحي بأنها مذبحة سببها كابوس لأحد الأنبياء، وأقيمت دعوة ضدها بتهمة ازدراء الأديان وحكم عليها بالسجن ستة أشهر مع إيقاف التنفيذ. فإذا كانت هذه هي أفكار شخصيات مجلس الأمناء للمركز وأعضائه البارزين فرادى، فكيف هو الحال لو اجتمعوا في مركز واحد، ما الجديد سوى أنه تضافر لهذا الأفكار وصياغتها في خطاب إعلامي موحد؟
البعض يشير إلى أن تأسيس هذا المركز المثير للجدل في توقيت الأحداث الجسام التي تمر بها القضية الفلسطينية، هو بهدف صرف الانتباه عن القضية، وهذا رأي غير مستبعد، خاصة أن لهذه النخبة آراء تطبيعية، فمنهم من قدم الاحتلال الإسرائيلي له الشكر عندما زعم أن المسجد الأقصى لا يخص المسلمين، وأن الإسراء كان من مكة إلى مكان قريب منها وليس إلى المسجد الأقصى. وآخر يطعن في المقاومة الفلسطينية، وصرح مؤخرا بشأن سيطرة الاحتلال على رفح الفلسطينية، بأنه لا يصح أن تنزل نقطة عرق واحدة من جبين جندي مصري على شأن معبر رفح الفلسطيني.
وربما استغل هذا المركز أحداث غزة ليتسلل إلى الأمة في غمرة انشغالها بالأحداث العظيمة، ويخوض مرحلة التأسيس في أجواء ساكنة، لكنه واجه وعياً ويقظة من الشعب المصري، ظهرت أماراتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك حالة كاسحة من انتقاد هذا المركز وشخصياته.
وربما كان اختيار هذا التوقيت ذا أبعاد سياسية للتغطية على أزمات داخلية، إذ أن هناك حالة من الغليان في الشارع المصري بسبب تردي الأحوال الاقتصادية والارتفاع الجنوني للأسعار، كل هذه تفسيرات محتملة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 1080