غزة… نهاية الاستعمار الصهيوني لفلسطين
ليس المهم ما يُدمَّر، لأن ما يُدَمَّر يُعَمّر، المهم هو إرادة المقاومة التي تتجلّى في غزة بشكل يثير الدهشة والإعجاب. حيث يبدو التناقض صارخاً بين مفهوم المقاومة التي تدافع عن الوجود والحرية، وتتناسب أفعالها مع تصوّراتها الإنسانية، وطموحها التاريخي للتحرر من آخر بؤرة استعمارية على سطح الأرض، ومفهوم الاستعمار الصهيوني المتوحش الذي يدمّر بقوته الهمجية المسعورة كل شيء في طريقه من دون أي حسّ إنساني. ما يفعله هذا الاستعمار الغاشم اللاعقلاني، اليوم، هو «صورة طبق الأصل» عمّا كان يفعله، من قبل، «أبوه»، الاستعمار الأوروبيّ، الذي دمَّر البلدان التي احتلّها وأباد شعوبها في بقاع الكون البعيدة والقريبة، واضطرّ، في النهاية، إلى الخروج منها بفعل مقاومة الشعوب المجيدة.
ما أن يبدأ الكائن بالتمرد على الظلم الواقع عليه، كما هو حال المقاومة الفلسطينية، الآن، حتى يغدو فاعلاً أساسياً في تغيير المصير المشؤوم الذي فرضه المستعمِرون عليه. وهو ما يعني، في الوقت نفسه، إبداع مصير آخر حرّ وسياديّ كان تحقيقه، من دون مقاومة، مستحيلاً. فالمقاومة بحد ذاتها حرية. وهي التي ستنتزع بطاقتها الخلاّقة وصمودها العنيد حريتها من مخالب الاستعمار. حركات المقاومة، إذن، هي العامل الفعّال في تحقيق حريات الشعوب، وتصنيعها من جديد. ومن دون مقاومة ستعيش الإنسانية في عبودية أبدية، أو بمعنى آخر ستتحوّل إلى كائنات منقرضة، أو في طريقها إلى الانقراض.
المدهش فيما نعيشه، الآن، هو أن المقاومة الفلسطينية الصامدة ألغتْ بشكل حاسم، عبر صمودها الاسطوري، وتفنّنها في الصدام، ألْغتْ نهائياً مفهوم الاستسلام العربي الذي أراده المستعمِرون الأوروبيون الأوائل، أولئك الذين مهّدوا الطريق لهذا الاستعمار الصهيوني الحاقد، وفرْضه على الشعوب العربية بالقوة، والحيلة، والكذب، والتضليل، أو بكل هذه العوامل معاً. لكن ذلك كله انتهى إلى هذه المقاومة العاصفة، اليوم. بلى! هذا ما حدث. وما يحدث الآن، ببساطة، ليس إلاّ ردّاً مناسباً على الطغيان الاستعماري الصهيوني أياً كانت النوازع والإدّعاءات التاريخية المليئة بالأوهام. ومهما يكن الأمر، فإن أساطير الأولين ليست صكّاً عقارياً، والرُسُل ليسوا كُتّاب عَدْل عقاريين.
المقاومة حتى التحرير، أو لا شيء. لا خوف من الدمار. ولا خوف من الموت. ليس لدى المقاومة ما تخسره سوى عبوديتها الحديثة المفروضة عليها بقوة الطغيان الصهيوني. ليخف الآخرون أهل الثراء والأبراج. ليخف المتمسكون بالسلطة والخاضعون للأوهام. ليخف أهل الترف المغري مصدر التردّي والتطبيع والتوافقات الملتبسة. المقاومة لا تخاف لأنها صُمّمت من أجل إلغاء الخوف. لا شيء يمنع الكائن من مقاومة مضطهديه، لا الدين، ولا الأخلاق، ولا الأعراف ولا التقاليد. لا شيء يمنع الكائن من مقاومة مستعمِريه، أياً كانت الظروف والعقود والمواقيت. أبداً، لا شيء. لا العدد، ولا الأساليب، ولا السلاح، ولا جدران العار العازلة. لا شيء في الكون يبرر الاستسلام غير تخاذل اللئام. إرادة المقاومة هي كل شي. وهذه الإرادة هي، اليوم، سلاح المقاومة الفلسطينية الأساسي. وهو سلاح لا يمكن التغلّب عليه، لأنه نابع من قلب الكائن الفلسطيني الذي أدرك بشكل لا يقبل الشك أن الوجود مع الاستعمار مستحيل، وأن الموت أفضل من الحياة بلا حرية.
وسوم: العدد 1088