إيلان بابيه والصهيونية المُماتة
في كتابها الجديد «أن تصبح مناصراً للفلسطيني»، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية ضمن منشورات I.B. Tauris، تُشرف روزماري صايغ على تحرير عشرات الشهادات المتضامنة مع القضية الفلسطينية، من الشرق الأوسط أوّلاً؛ ثمّ من جنوب وشرق آسيا، أفريقيا، أمريكا الشمالية، أوروبا، أستراليا، وأمريكا اللاتينية. ثمة شهادتان من حَمَلة الجنسية الإسرائيلية: عميرة هاس، وإيلان بابيه.
الأولى، هاس، أكثر تفضيلاً للمقاربة الصحافية بحكم المهنة والنزوع إلى إدراج الوقائع والمعطيات، فتشدّد على أنّ تعاطفها مع الفلسطيني بدأ منذ سنّ الثانية، حين أبصرت تظاهرة في القدس اختلط خلالها حداد الفلسطينيين على قتلاهم بالأسى على مصادرة بيوتهم وأملاكهم. الثاني، بابيه، توجّب أن يذهب إلى حيث يُنتظر من مؤرّخ مرموق وأكاديمي رصين: رحلة التحوّل بعيداً عن الصهيونية، وعواقب تشكيل إيديولوجية بديلة عمادها الالتزام غير المشروط بالقضية الفلسطينية.
مؤلفات بابيه كثيرة بالطبع، متعددة المواضيع حتى إذا كانت فلسطين ودولة الاحتلال في الصدارة من محاورها المتشابكة؛ وقد تجدر الإشارة هنا إلى إصدارات العامَيْن الأخيرين بصفة خاصة: «استيهامات إسرائيل»، «الضغط من أجل الصهيونية على جانبَيْ الأطلسي»، «الشرق الأوسط وجنوب آسيا»، و»رؤيتنا للتحرير» مع رمزي بارود.
وذات يوم كان المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس قد نحت تعبير «المؤرخين الجدد»، في وصف حركة ضمّت أمثال إيلان بابيه وتوم سيغيف وآفي شلايم، وسعت إلى إعادة قراءة تاريخ إسرائيل، وخاصة سنوات التأسيس، من زاوية «النكبة» والرواية الفلسطينية الموازية. في سنة 2008، حيال انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، تبدّلت قناعات موريس جذرياً في مسائل كثيرة، فغادر صفوف الحركة.
ومنذئذ، صارت المجموعة طريدة موريس المفضّلة، والدائمة أيضاً؛ وتحوّل رجل مثل بابيه إلى «كاذب في إهاب بطل»، كما جاء في مقال مسهب نشره الأوّل، يراجع فيه ثلاثة من أعمال الثاني. ولم يعد ذنب بابيه، في ناظر موريس، يقتصر على إنصاف السردية الفلسطينية، والذهاب أبعد في إدانة التطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، وفضح القيود الناعمة التي تعاني منها الحياة الأكاديمية الإسرائيلية.
إذْ توفّر، لاحقاً، «إثم» جديد: مساندة «الجهاديين» و»الإرهابيين» المناهضين لنظام بشار الأسد! ففي ناظر موريس، أن يكون المرء مع حقّ السوريين في الانتفاض ضدّ نظام استبداد وفساد، انزلق نحو الفاشية القصوى والهمجية المطلقة، والتطلّع إلى دولة الحقّ والقانون والمواطنة المتساوية والكرامة، في سوريا ديمقراطية تعددية؛ أمر يعني تأييد الإسلام المتشدد الجهادي، ولا توسّط البتة!
لكنّ حملات التأثيم المتعاقبة التي تتفاوت شراستها طبقاً لمقدار الإضرار بمصالح دولة الاحتلال، لم تفلح كثيراً في إيذاء صورة بابيه كما استقرّت طيلة عقود، وكما رسختها وتواصل ترسيخها أعماله ومواقفه. الرجل يواصل تقديم البرهان تلو الآخر على أنه لا يستحقّ مكانة «أشجع مؤرّخي إسرائيل، وأكثرهم مبدئية، وأقواهم حجّة»، كما وصفه الكاتب والمعلّق السياسي الأسترالي المعروف جون بيلجر، فحسب؛ بل إنه الطامح دون كلل إلى بلوغ ذلك الشرف الرفيع الذي يحلم به أيّ مؤرخ نزيه: نبش الحقيقة من باطن ركام الأكاذيب.
درّة تلك المؤلفات يظلّ كتابه «التطهير العرقي في فلسطين»، 2007؛ الذي يعيد فتح ملفات النكبة من هذه الزاوية المحددة، حيث يساجل بابيه بأنه لا مفردة أخرى غير «التطهير العرقي» يمكن أن تنوب عن تلك الممارسات التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في فلسطين آنذاك: أكثر من مليون فلسطيني شُرّدوا، بحدّ السلاح، عن بلداتهم وقراهم وبيوتهم؛ وجرى عن سابق قصد وتصميم تنفيذ مجازر جماعية؛ كما تمّ تهديم عشرات القرى الفلسطينية، ضمن مخطط متكامل.
ورغم الجهود المنهجية التي بذلتها مختلف المؤسسات الصهيونية لطمس الوقائع الصارخة، فإنّ حقائق تلك الجرائم أخذت تتكشف تباعاً، وكان محتماً أن تظهر كاملة غير منقوصة، في أقصى وحشيتها. وعلى غرار معظم دراسات «المؤرخين الجدد»، يناقش بابيه خيوط رواية صهيونية زيّفت التاريخ الإسرائيلي بصفة عامة، وحقائق الصراع العربي ـ الإسرائيلي بصفة خاصة. وعلى منوالهم، يذهب إلى تصوير الصهيونية كـ»خطيئة أصلية» تكمن في أساس تاريخ العنف الذي اجتاح المنطقة بأسرها، ولا يختلف كثيراً مع زملاء له يميلون إلى الحكم على الصهيونية بأنها بقايا مُماتة Archaic من الاستعمار الغربي، سوف تنقرض عاجلاً أم آجلاً.
ولا يظنّن أحدٌ أنّ الصهيونية المُماتة هذه منحصرة في مؤسسات دولة الاحتلال المختلفة، لأنّ بابيه تعرّض مؤخراً للاحتجاز طيلة ساعتين في مطار ديترويت الأمريكي، وصُودر هاتفه المحمول وجرى التنقيب في محتوياته، وطرح عليه اثنان من رجال الأمن الأمريكيين أسئلة حول قطاع غزّة، وما إذا كان يؤمن بأنّ الحرب الإسرائيلية هناك ترقى إلى سوية الإبادة الجماعية؛ وكذلك رأيه بشعار «فلسطين حرّة من النهر إلى البحر». ولقد ردّ بالإيجاب على السؤال الأوّل، وكذلك على السؤال الثاني من منطلق بسيط: كلّ الشعوب ينبغي أن تكون حرّة على أية مساحة من الأرض.
وكان بابيه، نفسه، أوّل مَنْ عقد المقارنة بين رجال أمن ديترويت الأمريكيين، وزملاء لهم في ألمانيا وفرنسا منعوا رئيس جامعة غلاسغو، غسان أبو ستة، من الدخول؛ فالمُمات هنا ليس الصهيونية وحدها، بل القانون الدولي وحقوق الإنسان، سواء بسواء.
وسوم: العدد 1088