غزة ليست الجزائر ولا فيتنام!
المقاومة قانون إلهي وطبيعي ولا يختلف عليه اثنان مطلقاً، فحتى العصافير تقاوم بشراسة عظيمة عندما تتعرض أعشاشها للخطر، ولا ننسى أن كل القوانين والشرائع الدولية تكفل حق المقاومة، وبالتالي فكل من يلوم أي شعب يواجه الغزاة والمحتلين، فهو يعارض القانونين الدولي والإلهي. لكن عند الحديث عن المقاومة وخصائصها ومقوماتها وطبيعتها، من الخطأ الفادح أيضاً المقارنات العمياء التي «تخلط زيد بعبيد» دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانيات وظروف وتضاريس وجغرافيا حركات المقاومة كل على حدة.
هناك اليوم للأسف من يمارس التعميم بشكل مضلل أو ساذج في أحسن الأحوال، فعندما يريد بعض المزاودين أن يدافع عن غزة بشكل تعبوي أهوج مثلاً يستشهد فوراً بالمقاومة الفيتنامية والأفغانية والجزائرية بطريقة «عمومية» ويضع الجميع في سلة واحدة، متجاهلاً عن عمد أو عن جهل أن الحالة الغزاوية تختلف اختلافاً كاملاً عن بقية الحالات التاريخية المذكورة، على الأقل من الناحية الجغرافية أو الطوبوغرافية. هل يعقل مثلاً أن تقارن غزة الصغيرة المنبسطة المكشوفة بأفغانستان يا رعاك الله؟
ألا تعلم أن من أعظم نقاط القوة لدى المقاتلين الأفغان الطبيعة الجبلية الوعرة لأفغانستان التي تمنح المقاومين كل ما تتطلبه حرب العصابات والكر والفر والكمائن والمداهمات والاختباء، فجبال أفغانستان وطبيعة تضاريسها تشكل درعاً عظيماً لأي حركة مقاومة، وكذلك الأمر طبعاً بالنسبة لليمن والجزائر وفيتنام التي كانت تتوزع مقاوماتها وحواضنها الشعبية في مساحات ومناطق متفرقة ومترامية الأطراف.
أليس من المضحك أن تقارن المساحة التي يناور داخلها المقاوم الفلسطيني في غزة بمساحة بلد مثل الجزائر الذي يعتبر شبه قارة صغيرة مقارنة بغزة؟ إن العمق الذي تمتعت به حركات المقاومة الفيتنامية والجزائرية واليمنية والفيتنامية وحتى اللبنانية لا يمكن مقارنته مطلقاً بالعمق الذي يحاصر المقاومين في غزة. نعم يحاصر، فغزة ليست محاصرة سياسياً وتجارياً وعسكرياً، فحسب بل هي أيضاً محاصرة جغرافياً.
لا شك أن البعض سيقول لنا إن المقاومين الفلسطينيين يعرفون تلك الحقيقة جيداً، ولم تغب يوماً عن بالهم، ولا ينتظرون أحداً أن يذكرهم بتلك البديهية البسيطة المعروفة للقاصي والداني، لهذا فهم استعاضوا عن غياب العمق الاستراتيجي بحفر شبكة أنفاق ربما لا مثيل لها في العصر الحديث، وتبلغ مئات الكيلومترات تحت الأرض، ولم يستطع العدو حتى الآن الوصول إلى نزر قليل جداً منها، وهذا صحيح، لكن ماذا عن غزة البشر والحجر؟ ألا تُعتبر صيداً سهلاً جداً لمغول العصر؟ ألم يمارس فيها العدو أبشع أنواع الإبادة والدمار؟ ألا تشكل الحاضنة الشعبية بعداً استراتيجياً عظيماً لأي حركة مقاومة؟
هل توفر لغزة ذلك الدعم الذي توفر لفيتنام، أم إن غزة لم تعان فقط قلة الدعم، بل عانت أيضاً من حصار خانق لا يرحم؟
ألم يكن الغزاويون بمعظمهم الحضن الحصين للمقاومة؟ ماذا فعل بهم العدوان الهمجي بسبب تكدسهم في منطقة محددة ومحاصرة؟ ألم يحوّلهم إلى مشردين ومهجرين وهائمين على وجوههم يفتقدون أبسط مقومات الحياة؟ ألم يحوّل بيوتهم إلى ركام؟ ماذا بقي اليوم من تلك المدينة التي تركها العالم تنهار فوق رؤوس أهلها؟ ألا تتحدث التقديرات الفلسطينية نفسها عن أن ثمانين بالمائة من غزة قد غدا حطاماً بفعل الغارات الإسرائيلية التي لم يضاهها في الهمجية سوى براميل النظام السوري التي أدت إلى تدمير ثلاثة أرباع سوريا وتهجير أكثر من نصف شعبها؟ هل من الحكمة أن تخوض معاركك داخل حواضنك الشعبية كما فعلت من قبل أيضاً قوى المعارضة السورية؟
لا شك أن سوريا أكبر من غزة بعشرات المرات، مع ذلك فإن كثافة الغارات السورية والروسية والإيرانية على المدن والقرى والأرياف قد أدت إلى تدمير الجزء الأكبر منها وتهجير الملايين من سكانها داخلياً وخارجياً، فما بالك بغزة التي لا تزيد مساحتها عن 360 كيلومتراً مربعاً، وهي بحجم حي مكشوف من أحياء الجزائر أو فيتنام أو أفغانستان. حتى لبنان الصغير يتفوق على غزة في العمق الاستراتيجي الذي تتمتع به الميليشيات الإيرانية.
وإذا تركنا الجانب التضاريسي والجغرافي جانباً، سنجد أن غزة تواجه حصاراً أشد وأعتى، ألا وهو حصار الجيران والحلفاء المزعومين. حتى إيران وميليشياتها التي كانت تعتبر المقاومة الفلسطينية جزءاً منها، قد خذلتها. أين ما يسمى بوحدة الساحات التي كانت تتفاخر بها إيران؟ ماذا قدمت بقية الساحات لغزة عندما جد الجد؟ النظام السوري الذي كان يضحك علينا بشعارات المقاومة منذ عشرات السنين منع السوريين من الخروج في مظاهرات مؤيدة لغزة، لا بل إنه حتى منع الدعاء للغزاويين في المساجد، ولم يسمح بإطلاق حجر واحد على إسرائيل من أراضيه. أما «حزب الله» فاكتفى كرفع عتب بإطلاق الصواريخ على عواميد اتصالات إسرائيلية منذ أشهر دون أن يصيب أياً منها، بينما اكتفى ما يسمى بالمقاوم الحوثي بـ«الزعبرة» الخطابية وإرسال طائرة مسيرة إلى تل أبيب أحدثت أضرارا لا قيمة لها. وبعد أن دمرت إسرائيل ميناء الحديدة اليمني عن بكرة أبيه لم نعد نسمع صوتاً للحوثي الذي تبخرت صواريخه الصوتية والفرط صوتية. أما إيران تاجر الممانعة فلم تتجرأ حتى الآن على الانتقام من إسرائيل التي اغتالت إسماعيل هنية في عقر دار خامنئي.
وللمقارنة، هل تعلم أن فيتنام لم تكن لتصمد وتنتصر لولا الدعم الصيني والسوفياتي العظيم؟ هل توفر لغزة ذلك الدعم الذي توفر لفيتنام، أم إن غزة لم تعان فقط قلة الدعم، بل عانت أيضاً من حصار خانق لا يرحم ولا يدع رحمة الله تنزل عليك. وحتى الدعم الإيراني المزعوم اتضح في عز الحرب أنه مجرد عنتريات فارغة وضحك على الذقون. فهل بعد كل ذلك يمكن أن تقارن غزة بفيتنام أو أفغانستان والجزائر التي قاومت لأكثر من مائة عام، ولم تكن حواضنها الشعبية والعمرانية مكشوفة أو مكدسة في منطقة واحدة؟ بالله عليكم قارنوا تفاحاً بتفاح، أو برتقالاً ببرتقال، لكن أرجوكم: لا تقارنوا زيتوناً ببطيخ؟
وسوم: العدد 1092