الأردن والأفق الساخن في الضفة الغربية

لم تكن تسمية الضفة الغربية موجودة، بأي معنى، قبل مائة عام من اليوم. وعلى الرغم من تجذر المقولة بين سكانها، وبين الفلسطينيين في الداخل والخارج، فالتسمية تحمل إشكالية، لأنها تتضمن بالضرورة الضفة الشرقية، لتطرح مشكلة مركبةً ومعقدة ومؤرقة، بدورها، تستدعي مقولة «من يده في الماء ليس كمن يده في النار».

الخريطة التي أنتجتها مقترحات تقسيم فلسطين كانت ستجد مكانها في سلة المهملات من أي طالب متوسط الأداء في مدرسة دينية يهودية، لأنها تهمل بصورة واضحة العامل الأسطوري للحدث التوراتي، الذي كانت الضفة مسرحه الرئيسي. وبعد الاشتباكات العسكرية في حرب 1948 تحصلت (إسرائيل) على أراضٍ فاقت الحصة المقررة في التقسيم.

يعتقد كثيرون أن شهوةً للتوسع راودت الملك عبد الله الأول في الاستحواذ على الضفة الغربية، وهو الترتيب الذي وضع الأردن على حافة الخروج من جامعة الدول العربية لولا تدخل اليمن والعراق (وكان البلدان تحت حكم هاشمي في ذلك الوقت)، وأدى قرار الضم وبعده فك الارتباط إلى تعقيدات اجتماعية كبيرة من الصعب أن تختزل في الأحداث، التي وقعت في القرن العشرين وحده.

الضفة كرة ملتهبة تلقفتها الأردن لأسباب اجتماعية أكثر منها سياسية، ففي أحد الفصول المنسية من تاريخ المنطقة أتت حرب التحالفات اليمنية والقيسية في فلسطين لتشكل دوامةً من التنقلات بين القبائل على ضفتي النهر. والمفارقة، أنه عند الحديث عن الفلسطينيين في الأردن، يتناسى آخرون، وجودا أردنيا في حالة الارتكاز إلى جغرافيا القرن العشرين توسع وتمدد في فلسطين، لتنتقل عشائر كبيرة من الشرق إلى الغرب، وتتركز في مناطق شمال فلسطين، وتتعمق الأزمة مع الفوضى السكانية، التي حدثت في جنوب إقليم الشام، مع هروب آلاف الشباب المصري من قوانين التجنيد الإجبارية، التي فرضها محمد علي، ليشكلوا بنى اجتماعية متشابكة ومتوطدة في المجتمعين الفلسطيني والأردني.

الحديث عن منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد، هو الذي أعطى بوابةً ذهنية لأكثر من بلد عربي للتخلي عن مسؤولياته تجاه (الشأن) الفلسطيني

تحت الطبقة الأولى المتمثلة في الفعل السياسي، تتأتى المسألة الاجتماعية الاقتصادية في العلاقة بين الضفتين، وهي ممتدة تاريخيا إلى مراحل بعيدة، بما جعل هذه العلاقة خارج نطاق الفهم التبسيطي والاختزالي، الذي يفضله السياسيون، وحتى من كان يمتلك منهم تأهيلا فكريا متقدما مثل شفيق الحوت، فهو يتحدث عن فلسطينيي الأردن. وكانت الضفة ما زالت جزءا من المملكة وقت حديثه، قائلا عنهم، «محتارون وحيرونا معهم». ويبدو الحوت نفسه وكأنه يضع الضفة بوصفها كيانا مستقلا داخل الكيان الفلسطيني، في وقت الاندفاع لوضع القضية الفلسطينية كلها خارج السؤال العربي الأوسع، بالحديث عن الممثل الشرعي والوحيد، وهو الأمر الذي أعطى بوابةً ذهنية لأكثر من بلد عربي للتخلي عن مسؤولياته تجاه (الشأن) الفلسطيني.

حالة من الغضب ضربت عمان في لحظات، مع أن تفجر الأوضاع في الضفة الغربية أمر متوقع وبعيد عن أن يشكل مفاجأة للأردن، ولكن نوازع القلق في عمان ترتبط بالتركيبة القائمة في (إسرائيل) في هذه المرحلة، مع تمكن اليمين الإسرائيلي المتطرف من فرض أجندته على الحكومة الإسرائيلية المصغرة، التي تتمسك بحالة الحرب. وبعد استغلاق الحرب على لبنان لأسباب جيوسياسية معقدة، كان الانفراد بالفلسطينيين في مدن الضفة الغربية، حيث تتعدد وتتكاثر مواقع الاحتكاك، خيارا إسرائيليا تغذيه الشعبوية بين المستوطنين، الذين يشكلون الفاعل السياسي المسيطر، ويعلنون عن نوايا كارثية، غير معنيين أو مهتمين بالمواقف الدولية تجاهها.

توجد ثوابت أردنية تتعلق بمنع التهجير. ولكن العنوان العريض يحمل تكلفة عالية للغاية، والأردن الذي اتخذ موقفا متقدما، في حدود إمكانياته، تجاه الأحداث في قطاع غزة، بدأ في مرحلة مبكرة في توريد كميات هائلة من المواد الطبية والغذائية للضفة الغربية، ويتطلع إلى تخفيض سقف طموحات اليمين الإسرائيلي، لأن الضغط الذي سيولده في الشارع الأردني نتيجة الارتباط الاجتماعي مع أهالي الضفة الغربية سيكون هائلا، فالضفة تبقى إلى حد بعيد، وعلى الرغم من الأوضاع القانونية والسياسية، جزءا من الوجود الثقافي في الأردن وتظهر في الحياة اليومية في تفاصيل كثيرة.

في مقابل إجهاض التهجير وتكريس الأمر الواقع نتيجة الارتباك الإقليمي والدولي، تحضر في جوهر الثوابت الأردنية مسألة بالغة الحساسية وهي العقيدة الوطنية والعسكرية الأردنية المتعلقة بفلسطين بشكل عام، فالأردنيون يتطلعون إلى فلسطين بوصفها الحلم والرئة، التي تربطهم بأفق ثقافي واجتماعي (بحر – أوسطي) يشكل انتماءً حقيقيا للطبقة الوسطى الأردنية، وبالتالي، لا يمكن التعامل مع الفلسطينيين بخشونة العزل، وعليه، وفي السيناريو الأسوأ – المقبول، ستتحول الأردن إلى محطة إمداد وإسناد للضفة بطريقة مرهقة اقتصاديا.

وفي السيناريو الكارثي، حدثت مناقلات واسعة للجيش الأردني لمناطق الأغوار مع مناورات ربما تتعلق بمناطق آمنة، بالمعنى الذي يمكن أن يضع على الطاولة من جديد موضوعات قديمة، اعتبرت مغلقة لدى العديد من المرجعيات في الدولة الأردنية، ومنها دور أردني، سياسي أو أمني في الضفة الغربية، بعد عملية إفشال متعمدة ومتعددة الفصول، مارستها إسرائيل تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية.

على المستوى الإقليمي، هذه الوضعية قد تدفع الأردن إلى تحالفات غير اعتيادية، خاصة أنه سيكون مضطرا للبحث عن عمق استنادي لن يتمثل في غير العراق. وفي هذه الحالة ستوضع أمام عمان متطلبات جديدة.

في فضاء الاحتمالات القائمة، من الصعب توقع الأثر الذي يمكن أن يخلقه تهديد الأردن في ظل طبيعة هندسة العلاقات العربية، لأن الأردن يكاد اليوم أن يكون في موقع «ألم أقل لكم؟».

وسوم: العدد 1093