هل من كسر للبنية الدموية في سوريا؟

هل تُحوِّل تطورات الأيام الأخيرة بيئة الصراع في سوريا على نحو يفتح الباب لتغيرات سياسية أوسع، تفاوضية أو غير ذلك؟ هل تكسر هذه التطورات نسقاً استقر طوال سنوات، نسق أحداث بلا تغير، أو أحداث عقيمة سياسياً، وإن تكون عنيفة ودموية؟ اتجهت الأوضاع السورية منذ عام 2013، ثم أكثر بعد استعادة النظام السيطرة على حلب في أواخر 2016، إلى عقم سياسي شديد، وإن في إطار من معاناة بشرية هائلة، ومن عنف دموي ومجازر تتكرر في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكذلك من أوضاع فاسدة وخانقة في هذه المناطق الأخيرة. انتهينا إلى أسوأ الأوضاع الممكنة: بنية تستمر بعنف كبير وآلام رهيبة دون تغير. وبينما نميل عموماً إلى افتراض أن البنى الاجتماعية والسياسية تدوم لأنها تنجح بصورة ما في استبعاد العنف، فإن تجربتنا خلال عقد تقول إن هذا الافتراض غير صحيح، وأن عنفا مستمراً قد يتوافق مع استقرار بنية عقيمة وليس مع تفككها وانهيارها. قد نسمي هذه بنى دموية، وهي في واقع الأمر طابع التاريخ السياسي السوري منذ بداية الحقبة الأسدية. ليس أن ما قبلها كانت أوضاع سلم واستقرار، لكن تداول السلطة، الانقلابي غالباً، حال دون استقرار أوضاع كهذه البنية الدموية التي نعرفها طوال أكثر من نصف قرن اليوم. نحو ثلث حقبة الحكم الأسدي هي حقبة عنف سائل شديد داخل سوريا، توزع على جولتين. أولاهما بين أواخر السبعينيات ومجزرة حماه الكبيرة عام 1982، والثاني مستمرة منذ ما يقترب اليوم من 14 عاماً. وهي بنية دم بسبب ضخامة عدد الضحايا والمعاناة الإنسانية، وبفعل ما يميزها من تطرف ومظالم شديدة، ثم لما يبدو من غياب أفق لمخارج سياسية معقولة.

وهذا واقع جرت إعادة إنتاجه بدرجات مختلفة في المناطق التي لا يسيطر عليها النظام، بحيث أن أياً منها لا يقطع مع البنية الدموية. السلطات الإسلامية المختلفة تقع ضمن هذه البنية، أمثلتها الماضية فظيعة القسوة، ليس عبر العنف اليومي وحده، بل والمثال الاجتماعي المفرط القمعية والتجسسي. وهو ما لا يقتصر على داعش، ويشمل سلطة جيش الإسلام في الغوطة الشرقية التي كانت قريبة من المثال الداعشي اجتماعياً. وليس بعيداً عنهما سلطة هيئة تحرير الشام في إدلب، وأكثر ابتذالاً وفساداً سلطة الجيش الوطني تحت الإمرة التركية منذ سنوات. لقد خسرت الثورة السورية لأن هذه هي السلطات التي أخذت تتصدر المشهد بدءاً من عام 2013. حصلنا على أسدية إسلامية، أشد قمعية على مستوى الحريات الاجتماعية، دون أن تعوض عن ذلك بأي شيء آخر، إلى درجة أنها وفرت للحكم الأسدي قضية عامة بعد أن كان بلا قضية. الركن الأساسي في اعتراضها على النظام هو أنه عنيف وطائفي. لكنها هي مثله في ذلك وأكثر: عنيفة مشهدياً وطائفية مبدئياً، ما يجعل منها استمراراً إسلامياً سنياً لبنية الدم الأسدية، أي لذلك المزيج من العنف السائل ومن التطرف والتميز ومن الأفق المغلق.

فإذا عدنا إلى السؤال التمهيدي في صدر هذه العجالة، هل تمثل بضع الأيام الأخيرة كسراً لهذا الدوام المميت؟ بداية ما حدث كبير حجماً: السيطرة على حلب بسرعة خارقة، ودون خسائر بشرية أو مادية كبيرة، والسيطرة كذلك على مناطق أخرى، بعضها كان «محرراً» من قبل، وبعضها ينتزع من النظام وحماته لأول مرة. وهناك في الأيام القليلة المنقضية مؤشرات إيجابية متواترة، بعضها تحرري بكل معنى الكلمة. أولها أنه جرى إطلاق معتقلات ومعتقلين من المسالخ الأمنية للحكم الأسدي، المخابرات الجوية والأمن العسكري. ليس هناك شيء أكثر أولوية من ذلك، تتجسم فيه القصة السورية كلها: خلاص السوريين من التعذيب والإذلال، ومن أجهزة التعذيب والإذلال، بأمل الخلاص القريب من دولة التعذيب والإذلال.

قد يكون المخرج الأسلم حالياً هو ترتيب دولي يفرض تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 وما يقضي به من هيئة حكم انتقالي متوافق عليها وبسلطات تنفيذية كاملة

وفي المقام الثاني عودة مهجرين إلى مناطقهم، أو إلى عائلاتهم التي تفرق شملها. هناك سلفاً مشاهد مؤثرة لعائدين إلى دورهم وأهليهم، كم يود المرء أن يكون شاهداً على مثلها، أو أن يكون هو العائد إلى الأحباب والدار، أو أن يكون ممن يعود إليهم أحباب غائبون.

إلى ذلك كان المقاتلون الذين سيطروا على المدينة منضبطين بقدر معقول. سجلت انتهاكات هنا وهناك، لكنها ظلت محدودة، بما قد يدل على مركز قيادة متحكم وعلى انضباط قتالي هو ما افتقد طوال سنوات الصراع المسلح في سوريا. وفي ما أتيح الاطلاع عليه من بلاغات ومخاطبات للأهالي، يجد المرء لغة بسيطة مباشرة، تخلو من الإحالات الدينية عدا البسملة، ولا تبدو معنية أولاً وأساساً بعرض الصفة الدينية المفرطة لأصحابها، مثلما كان الحال في عام 2013 وما بعد، واقترن بمزيج من الأنانية الحزبية والطائفية الفاجرة. نرى لحى سلفية بين المقاتلين، لكننا نرى مقاتلين بمظهر مغاير، لا يثير في النفس ما اقترن بالتنطع السلفي من نفور. نرى مراسلة واحدة على الأقل، محجبة، لكن نرى وجهها ونسمع صوتها بالعربية والإنكليزية، ونعرف اسمها: سارة القاسم، مما كان غير ممكن التصور عند داعش وجيش الإسلام وهيئة تحرير الشام ذاتها.

التفاعل الواسع في المنافي السورية مع تطورات الأيام الأخيرة اتسم بقدر كبير من الإيجابية، ممزوجة بشيء من الخشية والتوجس. فقد أكثرنا الشجاعة على الأمل، لا يجدونها في قلوبهم، وهذا تحت وطأة خيبات لا تحصى تركت في النفوس شعوراً بالمهانة والاحتقار. مع ذلك لا يلتبس أكثر ما يمكن رصده من تفاعلات بالمواقف العدائية أو المتعالية على ما يجري، ويعرض أكثر المتفاعلين قدرة على الجمع بين الدعم والحماس وبين النقد.

ماذا تقول لنا هذه الأيام المذهلة في سرعة إيقاع تطوراتها، فيما نشطته من آمال، وفيما يخشى أن يعقبها من إحباط ويأس؟ بقدر ما تظهر رفضاً جذرياً لـ«سوريا الأسد» واستعداداً متجدداً لمقاومتها بالسلاح، فإنها تسجل اتخاذ مسافة لافتة عن الأسلمة العدوانية، لغة ومظاهر وممارسات. والعبرة البسيطة والحاسمة وراء ذلك هي بكل بساطة أن النضال السوري يحكم على نفسه بالتهافت والفشل بقدر ما يتأسلم، أنه بالعكس يحظى بقاعدة أوسع ودعم أقوى بقدر ما يكون صراعاً من أجل حقوق وحريات، بما فيها حق الناس في دينهم/ أديانهم والحريات الدينية، وأن هذا هو ما يكسر البنية الدموية المنغلقة على السوريين. أسدية إسلامية لا تفشل فقط في الخروج من البنية الدموية، بل هي فوق ذلك مشروع انقسامي، صراعاته الداخلية دموية هي نفسها مثلما رأينا في سنوات سابقة.

أن تجري مقاومة التمييز ضد المسلمين السنيين مما هو مستمر أسدي مديد شيء، وأن يجري التمييز لمصلحة المسلمين السنيين شيء آخر معاكس. ما يحتاجه السوريون هو رفض التمييز، وليس الانتقال من التمييز لمصلحة طرف اجتماعي إلى التمييز لمصلحة طرف آخر. وما تحتاجه سوريا هو القطع مع البنية الدموية وليس تبديل القائمين على إدارتها.

وهذا الدرس يبقى صالحاً أياً تكن مآلات عمليات «ردع العدوان» (الاسم ذاته دال على هدف جمعي، يمكن أن يتعرف فيه أناس متنوعون على ما يريدون، وليس على إحالة إلى الذات عبر تلك الأسماء الإسلامية الإقصائية). وهذا لأنه أهم ما حدث في سوريا منذ عام 2013، واقترن بالفعل بأكثر انفعالات السوريين إيجابية وأكبر تقارب بينهم منذ ذلك العام الوخيم.

ليس هناك ضمانات بأن تبقى الأمور معتدلة ومنضبطة، وبخاصة إن توسع النظام وحماته في استهداف المناطق المدنية مثلما أخذوا يفعلون في حلب. وقد يكون المخرج الأسلم حالياً هو ترتيب دولي يفرض تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 وما يقضي به من هيئة حكم انتقالي متوافق عليها وبسلطات تنفيذية كاملة. فمن أجل استبعاد مخاطر التطرف الإسلاموي، ينبغي حتماً استبعاد التطرف الأسدي وداعميه، الإيرانيين بخاصة.

وسوم: العدد 1105