مكاييل سوريا الجديدة: اتفاق «الأعداء/ الأصدقاء»

ssgsg1107.jpg

لامرئ أن يدع جانباً، ولكن إلى حين وجيز مرحلي فقط، التصريحات الحمقاء عن «كينونة المرأة» و«طبيعتها البيولوجية والنفسية» التي «لا تتناسب مع كلّ الوظائف في الدولة»؛ التي صدرت على لسان عبيدة أرناؤوط، المسمى متحدثاً رسمياً باسم الإدارة السياسية التابعة لـ«إدارة العمليات العسكرية». هذا نموذج عقل متخلف جاهلي وجاهل، لم يتمّ تشذيبه سياسياً أو هندمته سجالياً، بل لعله غير مسيّس أصلاً، ولم يًلقّن كما يبدو نزراً كافياً أو حتى يسيراً من مهارات التخاطب والمناورات اللفظية التي تكشفت لدى قادته من أمثال أحمد الشرع أو أحمد الدالاتي.

للمرء ذاته أن يدع، جانباً أيضاً وللأمد الوجيز إياه، سلسلة «التكويعات» حسب التعبير السوري الرائج هذه الأيام، والصائب تماماً، ليس لدى أمثال دريد لحام وعباس النوري وسواهما من نجوم الثقافة الشعبية؛ وليس، أيضاً، لدى الثالث بسام كوسا، الذي لم يبصر في انهيار نظام آل الأسد سوى مجرّد «انقلاب». مناخات التعبير الراهنة في سوريا الجديدة تتيح للجميع إبداء الرأي في الشؤون العامة من دون تقييد، ولا تثريب عليهم بمعزل عن عواقبها الأخلاقية والسياسية لدى السوريين، أصحاب ذاكرة ليست حسيرة إزاء مواقف سابقة لهؤلاء في خدمة النظام أو تلميع سجلاته السوداء الدامية.

ثمة، في المقابل، غابة من المكاييل التي أُعلنت سلسلة من المعايير مسبقة الصنع، تُساق على سبيل ضبط سوريا الجديدة، لا تتميّز بصفة أخرى أكثر هيمنة مثل اتفاق النقائض ومصالحة التنافر؛ بين مواقف عنصرية، صريحة أو مبطّنة على نحو رديء، صادرة عن قوى وحكومات ووسائل إعلام غربية، من جهة أولى؛ ونظائرها، لدى كتّاب ومعلّقين ونشطاء منظمات غير حكومية، ولكن في صفوف «اليسار» عموماً، وجبهات «مناهضة الإمبريالية» خصوصاً، من جهة ثانية. هنا تقع «معجزة» التلاقي بين المتناحرين، في تشكيل تلك الفئة العجيبة الغريبة التي تنطبق عليها تسمية «الأعداء/ الأصدقاء».

تتقاطر على دمشق وفود غربية وأممية شتى، وتلتقي مع الشرع أساساً ويندر أن تستمع إلى فعاليات شعبية أو ممثلين عن المجتمع المدني، لتذكّر بضرورة حكومة واسعة التمثيل (وهذه مفهومة، ضمن كليشيهات النصح الغربية الكلاسيكية)؛ وتشترط، أياً كان مستوى التهذيب اللفظي، الحفاظ على حقوق المرأة والأقليات (وهذه مفهومة بدورها، وإن كانت روائحها تفوح أكثر من تواريخ التنميط الكولونيالي قبل شرائع حقوق الإنسان). وقد يقول قائل إنها مطالبات حقّ، متغافلاً عن حقيقة أنّ الباطل هو ما يُراد من معظمها؛ لأنّ أياً من هذه المعايير وسواها لم، ولا، يُطلب من أنظمة عربية أخرى، استبدادية وفاسدة ومغتصبة لحقوق الإنسان والمرأة والتعبير، لكنّ امتيازها أنها مجرّات تابعة سائرة في المدارات الغربية.

مشهد السيدة السورية، التي استقبلت الموفد الأممي غير بيدرسون بالحذاء والبصاق على مشارف سجن صيدنايا، كان واحداً من التعبيرات الأعلى بلاغة حول وسيط دولي شاءت الأقدار أن يبقى على رأس عمله (بعد كوفي أنان، الأخضر الإبراهيمي، وستافان دي ميستورا) ساعة سقوط النظام؛ وشاء من جانبه أن يستعرض عضلاته الأممية بزيارة سجن أطلقت عليه منظمات حقوقية دولية تسمية «المسلخ البشري» ويصعب أنّ بيدرسون لم يقرأ عنه، ولكنه لم ينبس بمفردة واحدة حول أهواله. هذا جانب أوّل في غطرسة عنصرية تستهبل ذاكرة السوريين مسبقاً، وتفترض أنّ من واجبهم قبول المبدأ التالي، بل التهليل له أيضاً: وصول بيدرسون إلى السجن متأخراً 13 سنة، باحتساب أشغال سابقيه في الوظيفة، خير من عدم وصوله البتة!

تتقاطر على دمشق وفود غربية وأممية شتى، وتلتقي مع الشرع أساساً ويندر أن تستمع إلى فعاليات شعبية أو ممثلين عن المجتمع المدني، لتذكّر بضرورة حكومة واسعة التمثيل

لا أحد، في المقابل، ينطق بحرف واحد حول أكثر من 400 غارة إسرائيلية استهدفت ما تبقى من أسلحة وعتاد جيش بات اليوم ملكية الشعب السوري وليس نظام آل الأسد؛ بل لا أحد يتحلى بذرّة حياء، أو حرج بسيط، حين يصنّف تلك الاعتداءات في خانة الدفاع عن النفس، وهذا «حقّ» كان مقتصراً على دولة الاحتلال الإسرائيلي، ثمّ انقلب إلى امتياز حصري كيفما شاء أمثال بنيامين نتنياهو، وأينما اختاروا ممارسته. هذا، بدوره، خيار لا حاجة للغوص عميقاً في بواطنه لاستكشاف ما ينطوي عليه من أنماط بغيضة في التمييز العنصري بين عربدة القوة وحقّ المقاومة.

وفي الجانب الآخر من غابة المكاييل، ثمة تلك الشرائح من يسار غربي مناهض للإمبريالية، ولكنه التحق بصفوف النظام السوري من منطلق (زائف أصلاً ومزيف، إذا لم يكن مختلَقاً عن سابق قصد وتصميم) مفاده أنّ السلطة التي تحكم سوريا فاسدة وقمعية واستبدادية، نعم وصحيح (إذْ لا سبيل إلى إنكار هذه، وسواها!)؛ لكنها، في المقابل، «معادية للإمبريالية» و«علمانية» و«ممانعة» وشعبها ضحية العقوبات الأمريكية والأوروبية. وإذ يتعامى هؤلاء عن لجوء النظام إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، أو يعمد بعضهم إلى اتهام المعارضة المسلحة باستخدامها؛ كان الأشنع في ترسانة مساندة ذلك اليسار المناهض للإمبريالية هو التعامي الفاضح عن تاريخ علاقات آل الأسد مع الولايات المتحدة… رأس الإمبريالية العالمية.

وذاك سجلّ حاشد يسرد انخراط نظام «الحركة التصحيحية» الأب حافظ مثل وريثه بشار، في جولات استجداء وخنوع، كان هدفها الأوّل، والثاني والثالث والعاشر أيضاً، هو منجاة النظام وحفظ بقائه، برعاية واشنطن وحليفاتها؛ صغيرات وكبيرات، من دولة الاحتلال إلى البحرين. وللتذكير المفيد، مجدداً ودائماً، فإنّ علم السياسة، في فصوله التي لا تُعلي على خدمة المصالح أيّ اعتبار، كان يجبر واشنطن على إبقاء وضعية الشدّ والجذب مع النظام السوري عند حدود منضبطة، لها أن تذهب أنّى تشاء في اللفظ والبلاغة، كما الحصار والحرد والإيحاء بالعزل والمقاطعة… ولكن ليس لها أن تجازف بصبّ أيّ زيت على نار متقدة، حتى وإنْ كان اتقادها تحت الرماد فقط.

فأيّ مصلحة لواشنطن ــ التي كانت تحتلّ العراق، وتحتل أفغانستان، وتواجه حصاد ما زرعت من «صناعة جهادية» وجبهات خصامها مع الشعوب وشتى الأعداء لا تتقلص بقدر ما تتسع… ــ في أن تسرّع بإسقاط نظام متداع متفكك متآكل؛ ينطوي بطءُ سقوطه على منافع عديدة، وقد يفضي العكس إلى عواقب نقيضة؟ وإذا جاز القول إنّ النظام السوري لم يكن صديقاً لأمريكا، على غرار الصداقات السعودية أو المصرية مثلاً، فهل يجوز الاستطراد بأنّ النظام عدوّ لدود للولايات المتحدة؟ كلاّ، أجاب على الدوام عدد من دبلوماسيي أمريكا المخضرمين، ممّن امتلكوا بعض الحصافة في قراءة خرائط الشرق الأوسط، لا سيما طبائع الحاكم والحكم، والاجتماع والعقيدة، والاستبداد والفساد.

لافت، إلى هذا، أنّ اليسار المناهض للإمبريالية تعاطف مع حركة «حماس» في قطاع غزّة لأسباب لا تتصل بالتضامن مع الشعب الفلسطيني في وجه حرب الإبادة الإسرائيلية، فحسب؛ بل كذلك لأنّ انخراط «حماس» في مواجهة دولة الاحتلال هو كفاح، بمعنى ما، ضدّ الإمبريالية. فكيف حدث أنّ مواقف التيارات اليسارية ذاتها اختلفت، وتختلف، عند النظر إلى «هيئة تحرير الشام» التي لا تقلّ إسلامية عن «حماس» فيسود حديث عن «عقيدة جهادية» لدى الأولى، معادية جوهرياً للديمقراطية وللعلمانية وللمرأة وللأقليات… مقابل الافتراض بأنّ الثانية مؤهلة لإنجاز كلّ تلك التحولات.

هذه، بدورها، عنصرية مبطنة تنسحب أيضاً على الوفود الرسمية الأوروبية التي تجتمع اليوم مع قادة «هيئة تحرير الشام» المصنّفة على الدوام في لوائح المنظمات الإرهابية، ورفضت وترفض لقاء قادة «حماس» لأسباب شتى مبطنة بالطبع وأخرى معلَنة تتكئ على حكاية التصنيف الإرهابي. ذلك لأنّ أعراف التقاء «الأعداء/ الأصدقاء» تستعصي على المنطق السليم، فلا تسير إلا على هدي منطقها الخاص، حيث يستقيم الاعوجاج.

وسوم: العدد 1107