الأسد واليمين الفرنسي: نبيذ ومراقصة

قبل خمس سنوات نشر على منصة تويتر (X حالياً) صورته في أحد مطاعم صيدنايا، يحمل في يده زجاجة نبيذ فرنسي من النوع الشعبي المعروف باسم “كوت دو رون”؛ متفاخراً بعثوره عليها هناك في تلك البلدة السورية، رغم ظروف الحصار المفروض على سوريا كما كتب.

لم يكن يجهل، بل كان يدرك جيداً، أنّ حفنة أمتار قليلة تفصله عن السجن الذي ستطلق عليه المنظمات الحقوقية تسمية “المسلخ البشري”؛ وبالتالي لم تُنتظر منه مفردة واحدة حول أهوال المكان، أو فظائع انتهاكات حقوق الإنسان في سائر سوريا.

ذلك لأنّ العشاء تمّ خلال واحدة من زيارات عديدة قام بها إلى سوريا، صحبة نوّاب وساسة وصحافيين فرنسيين، التقوا خلالها برأس النظام بشار الأسد والتقطوا معه صوراً تذكارية جماعية أو فردية على طراز الـ”سيلفي”.

إنه تييري مارياني، النائب في الاتحاد الأوروبي عن حزب “التجمع الوطني” الفرنسي اليميني المتطرف، الحزين اليوم على رحيل الأسد وانهيار نظام تغنى به على الدوام، وامتدحه على نحو خاصّ خلال 14 سنة بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية في آذار (مارس) 2011. وبين سلسلة التغريدات التي يواصل نشرها على X بعد فرار الأسد، ثمة واحدة تسير هكذا، على سبيل المثال فقط: “فرنسا تهنئ نفسها بانتصار الإسلاميين في سوريا.

وقريباً سوف يأسف هؤلاء أنفسهم إزاء موجة جديدة من اللاجئين وتصاعد تهديد الإرهابيين الإسلاميين في أوروبا”.

رئيس حزبه، جوردان بارديلا، سكت تماماً عن الفظائع التي أخذت تتكشف تباعاً، ولكنّ تعاطفه مع الأسد الفارّ اتخذ كالعادة وجهة مغايرة، مفضوحة بدورها: “سقوط نظام بشار الأسد، المتداعي بعد أن تخلى عنه داعموه الداخليون والخارجيون، يُلقي بالبلاد إلى الإسلاميين”؛ وهذا هو العنصر الأوحد الذي يعني بورديلا، صاحب الرأي القائل بأن فرنسا تلتقي مع الأسد في عدو مشترك يدعى “داعش”.

زعيمة الحزب مارين لوبين، دافعت طويلاً عن الأسد ونظامه، وطالبت مراراً باستئناف الصلات بين باريس ودمشق، ولجأت إلى توصيف الموقف هكذا، في سنة 2022: “قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا أعمى أعيننا، خاصة في ميدان الكفاح ضدّ الإرهاب الإسلامي، ربما في البرهة الأكثر خطورة التي تمرّ بها البلاد”. والأسد متسلط، تتابع لوبين، لكنه “ليس بربرياً”، وأياً كان الاحتجاج عليه، فإنّ “الدولة التي يديرها بشار الأسد هي دولة، تحمي من بربرية الدولة الإسلامية”.

وكانت لها، بعد أن استقبلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ربيع 2017، مواقف مشهودة تطري القصف الروسي في سوريا، وتشدد على أنّ الشرّ الوحيد هو داعش، و”بشار لم يرسل جنوده لقتل أطفالنا في شوارعنا”.

وبمعزل عن اليمين الفرنسي المتطرف، تنامى من حول مغازلة النظام السوري يمينٌ فرنسي تقليدي، أو “جمهوري” كما يحلو لهم القول، امتدّ على كامل العقود التي أعقبت انطواء المدرسة الديغولية في السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط عموماً.

فإذا كان أمثال لوبين وبارديلا ومارياني دعاة خطاب يميني متطرّف وعنصري وشوفيني ورهابي؛ فإنه أيضاً إنتاج وإعادة إنتاج لنمط فرنسي مبتذل من فلسفة “المحافظين الجدد” في أمريكا، كما بشّر بها الرئيس الفرنسي اليميني الأسبق نيكولا ساركوزي. وكانت زيارة الأخير إلى سوريا ولبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي خلال سنة 2008، بمثابة تطبيق عملي لخيار الوقوف على ما تبقى من أطلال الديغولية؛ أو بالأحرى، خرائب تلك الخرافة العتيقة التي سُمّيت ذات يوم بـ”السياسة العربية لفرنسا”.

في بيروت اعتبر ساركوزي أنّ رئاسته ضامنة (مسرحية أوّلاً، في الواقع، بدلالة تنفيذ الزيارة بعد انتخاب ميشيل سليمان، صحبة قادة الأحزاب السياسية الفرنسية + الروائي اللبناني الفرانكوفوني أمين معلوف!) للسلام الأهلي اللبناني وللمحكمة الدولية؛ فانتهت زيارته إلى ما يشبه إسدال الستار على فصل ناقص، نهايته معلّقة عند سلاح “حزب الله”، وجولة اجتياح بيروت في 7 أيار (مايو) تلك السنة. أمّا في دمشق، فإنّ التعاطي مع النظام وفق قاعدة “حوار على أسس واضحة، بشأن القضايا المشتركة”؛ انتهى إلى قصاصة ورق دسّها برنار كوشنر، وزير الخارجية الفرنسي يومذاك، في جيب وليد المعلّم، تتضمن لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!

جاك شيراك، الرئيس الأسبق، ومؤسس مدرسة اليمين ذاتها التي خرّجت ساركوزي، أعلن في سنة 2008 وكان قد غادر الرئاسة، مقاطعة احتفالات فرنسا بالعيد الوطني (لأنّ بشار الأسد سوف يكون على المنصّة، كما فُهم قراره ضمناً وليس تصريحاً). ولكنه كان شيراك نفسه الذي، في سنة 1999 رئيساً هذه المرّة، دعا الأسد الابن إياه إلى باريس ولم يكن الأخير يشغل آنذاك أيّ منصب رسمي، ما عدا رئاسة الجمعية المعلوماتية السورية؛ بترتيب مباشر من رئيس الوزراء اللبناني آنذاك… رفيق الحريري!

مراقصة الطغاة إرث طويل عريض في الجمهورية الخامسة، وأوّل زيارة قام بها الأسد الأب إلى باريس تمّت في عهد فاليري جيسكار ــ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان. حزن تيارات اليمين الفرنسي على سقوط الأسد اليوم لا يضيف إلى طنبور الرقص القديم سوى نغم جديد… نشاز، في كلّ حال!

وسوم: العدد 1109