اتفاق غزّة: مفاخر ترامب ومساخر بايدن
الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب يُعذر، والحقّ يُقال، إذا تفاخر بدوره في إتمام صفقة وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، ولا يُلام إذا كتب على موقع التواصل الاجتماعي الخاصّ به أنّ «هذا الاتفاق الملحمي ما كان له أن يرى النور إلا بفضل انتصارنا التاريخي في تشرين الثاني (نوفمبر)، الذي أرسل رسالة واضحة إلى العالم بأن إدارتي تسعى للسلام وتفاوض على صفقات تضمن أمن الأمريكيين وحلفائنا».
هو، كذلك، محقّ في السخرية من سيد البيت الأبيض الحالي، جو بايدن، الذي عجز خلال 14 شهراً ونيف عن تحقيق اختراق نظير؛ رغم أن مبعوثيه، على مستويات وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ومدير المخابرات المركزية، تقاطروا إلى الشرق الأوسط مراراً وتكراراً، وتدافعوا بالمناكب بين تل أبيب والدوحة والقاهرة وإسطنبول…
وبين تهليل هذا أو ذاك من ساسة العالم والتسابق على استخدام النعوت الغنائية في توصيف الاتفاق، كانت مجلة «لانسيت» الطبية البريطانية الشهيرة قد نشرت دراسة فارقة تماماً، أعدتها «مدرسة لندن للصحة والطب الاستوائي» بالتعاون مع جامعة ييل، تقول إن عدد الوفيات خلال الأشهر التسعة الأولى من الحرب الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة بلغ 64,269 قتيل؛ وهذا رقم يفوق بنسبة 41 في المئة الأعداد التي قدّرتها وزارة الصحة في القطاع، ويمثّل قرابة 1 مقابل 35 من مجموع السكان.
ولأنّ دولة الاحتلال لم تتوقف عن القصف الوحشي خلال الأيام التي أعقبت الإعلان عن التوصل إلى الصفقة (81 شخصاً، بينهم أكثر من 19 طفلاً)، فإنّ من الضروري والمشروع تماماً أن توضع الحال الراهنة في سياق ماضي تعاقدات الاحتلال مع قطاع غزّة. ويستوي أن تُسمى هدنة أم وقف إطلاق نار أم تهدئة، فهذه ليست سوابق قائمة في فراغ تاريخي، بادئ ذي بدء؛ وقد سجلت من مشاريع التهادن بين «حماس» ودولة الاحتلال أكثر مما سجّلت من جولات حروب وحشية شنّها على القطاع بنيامين نتنياهو وأسلافه من رؤساء الحكومات الإسرائيلية. وفي كلّ مرّة، كانت الهدنة صيغة إجرائية مؤقتة لا تتجاوز ترتيبات وقف إطلاق النار، ولكنها لا تخلو من تشديد في الحصار ومضاعفة في تدابير خنق الأهالي.
كذلك لم يتأخر مايك والتز، مستشار الأمن القومي في إدارة ترامب، عن تذكير العالم بأنّ واشنطن سوف تدعم دولة الاحتلال متى شاءت استئناف قصف القطاع، وكيفما كانت ترتيبات الطور الثاني من الصفقة الراهنة؛ سواء ترجمت ما اتُفق عليه بنسبة عالية أو متوسطة، أو انتهت فعلياً إلى ما يشبه تفريغ البنود من مضامينها الملموسة، أو الانقلاب عليها في كثير وليس في قليل. «إذا كانوا بحاجة إلى العودة للقتال، فنحن معهم» يقول والتز، مخاطباً «شعب إسرائيل» من باب الافتراض بأنّ هذا الشعب كتلة صماء واحدة متراصة خلف نتنياهو وحكومته الأكثر يمينية وعنصرية في تاريخ الكيان.
وفي مقابل التهليل للاتفاق بوصفه انتصاراً لشخص الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب، يصحّ تجريد الرئيس الحالي بايدن من أيّ فضل في التوصل إليه؛ أو الأحرى الذهاب إلى رياضة أخرى في الموازنة بين الاثنين على هذا الصعيد: الأخير لم يتوقف عن إبداء العجز تلو الإخفاق، من جهة أولى؛ ولم يجد أيّ حياء في التصديق على أكذوبة إسرائيلية تلو أخرى، من جهة ثانية. اللائحة تبدأ من الأطفال مقطوعي الرؤوس، وتمرّ من تكذيب قصف مشفى الشفاء لصالح الرواية الإسرائيلية، وليس لها أن تنتهي عند مهزلة وضع خطّ أحمر أمام أيّ توغل إسرائيلي في رفح.
وبين مفاخر ترامب ومساخر بايدن، لا يلوح أنّ جرائم حرب الإبادة الإسرائيلية سوف تضع أوزارها مع هذا وذاك.
وسوم: العدد 1112