رؤية في مفهوم العقد الاجتماعي في فكر جان جاك روسو الجزء الأول

dfdbdf113.jpg

ترى هل تساءلنا يوما من أين تأتي سلطة الحكومات؟

وما هو الثمن الحقيقي الذي ندفعه مقابل العيش في مجتمع منظم؟

هذا كله نتيجة اتفاق غير مكتوب بيني وبين الآخر في المجتمع، أي هو عقد اجتماعي يربطنا جميعا بل هي فكرة واحدة غيرت العالم إلى الأبد. في كتابه العقد الاجتماعي للفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، الذي وضع أساسا جديدا للفكر السياسي هز الأنظمة الملكية و أشعل الثورات . روسو لم يطرح مجرد نظرية بل قدم رؤية ثورية لكيفية تنظيم المجتمعات حيث يكون الشعب هو مصدر السلطة الحقيقية وصاحبها. لم يكن جان جاك روسو فيلسوفا و حسب، بل كان من أهم العقول الثورية في التاريخ، فقد نشأ في بيئة متواضعة لكن أفكاره كانت عظيمة، لدرجة أنها هزت الأسس السياسية والاجتماعية في أوروبا في القرن الثامن عشر، ولا يزال تأثيرها قائلا حتى يومنا هذا. لقد عاش روسو حياة مليئة بالأسئلة العميقة عن العدالة و الحرية والمساواة، في الوقت الذي نشر فيه الكتاب كانت الأنظمة الملكية و الديكتاتورية هي الحاكمة، وكان القمع و اللامساواة هما القانون السائد في حينه. لكن روسو جاء ليقول شيئا مختلفا تماما في عقده الاجتماعي، لقد قدم رؤية واضحة و جديدة للعلاقة بين الفرد و المجتمع ووضع مفهوما أساسيا. و هو أن السلطة السياسية لا تأتي من الله أو من الملك. بل تأتي من الشعب نفسه. كان روسو يعتقد أن البشر في حالتهم الطبيعية كانوا أحرارا لكنهم عاشوا في فوضى. ومع تطور المجتمعات نشأ نوع من العقد الغير مكتوب بين الأفراد يوافقون فيه على التنازل عن بعض حرياتهم الفردية مقابل الحماية و النظام، وهذا العقد أو الاتفاق هو ما يعرف بالعقد الاجتماعي. لكن روسو لم يتوقف عند هذا الحد بل أبعد من ذلك ليؤكد أن هذا العقد الاجتماعي، يجب أن يعكس الإرادة العامة للشعب بمعنى آخر، أي يجب أن تكون الحكومة نتاج إرادة جماعية وليست مفروضة من فرد أو نخبة معينة، هذه الأفكار الجذرية وضعت الأساس للثورات الكبرى التي تلت الثورة الفرنسية وصولا إلى الحركات الديمقراطية في جميع أنحاء العالم من خلال العقد الاجتماعي. لقد أراد روسو تغيير النظرة التقليدية للسلطة بدلا من أن يكون الناس مجرد رعايا في مملكة يحكمها ملك مطلق. الشعب هو صاحب القرار ومصدر الشرعية وليس السلطة المفروضة بالقوة أو الوراثة ، كما هو الحال في عالمنا العربي و هذا مؤسف للغاية.

وهنا السؤال الذي يطرح نفسه بقوة؟ كيف يمكننا الانتقال من الفوضى إلى النظام؟ من الحرية المطلقة إلى الحرية المنظمة؟ الحل الذي قدمه روسو في عقد اجتماعي هو اتفاق ضمني بين الأفراد في المجتمع، بموجب هذا العقد يوافق الجميع على التخلي عن بعض حرياتهم الفردية مقابل شئ أكبر و هو حماية النظام و العدالة. لكن هذا ليس مجرد عقد قانوني كما نعرفه اليوم بل هو عقد أخلاقي وفلسفي، حيث الأفراد يوافقون على الخضوع للقوانين ليس لأنها مفروضة عليهم من سلطة خارجية، ولكن لأنهم اختاروا ذلك مقابل الحصول على حريات أخرى الأمن والمساواة و الاستقرار. ويشرح روسو الحرية الحقيقية ليست في فعل ما تشاء دون قيود بل وفقا لقوانين تعبر عن الإرادة العامة للجميع. فهي ليست مجرد مجموع إرادات الأفراد، بل! هي تعبير عن ما هو أفضل للجميع. وفقا لروسو القوانين، التي تفرضها الإرادة العامة هي التي تحقق الحرية الحقيقية عندما نلتزم بهذه القوانين، نحن نمارس حريتنا لأننا نعيش وفقا لقواعد نحن من شاركنا في ترسيخها و هنا يتجلى جوهر العقد الاجتماعي.

القوانين ليست أدوات للقمع بل أدوات لتحقيق الحرية الجماعية، لكن العقد الاجتماعي لا يتعلق فقط بحماية الحقوق بل بالمساواة للجميع، بغض النظر عن خلفيتهم أو قوتهم هم يخضعون لنفس القوانين و الجميع يتساوى أمام الإرادة العامة؛ فهي ليست مجرد حرية فردية بل حرية جماعية تعزز العدالة الاجتماعية، و روسو كان يعتقد أنه هذا هو السبيل الوحيد لتجنب الاستبداد والفوضى، إذا كانت القوانين نابعة من الإرادة العامة فلن تكون لصالح فئة معينة على حساب الأخرى، بل ستكون لتحقيق المصلحة العامة. إذا العقد الاجتماعي هو الحل لتحقيق التوازن بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. والحرية ليست في الفوضى أو الأنانية بل في التوافق مع المجتمع والعمل معا لتحقيق المصلحة العامة عندما نلتزم بالقوانين، التي تعبر عن الإرادة العامة نحن نكون أحرارا حقا لأن هذه القوانين ليست مفروضة علينا من الخارج بل هي تعبير عن إرادتنا المشتركة. و يعتقد روسو أن هذه الحرية الحقيقية، حرية مشتركة وجماعية تعطي كل فرد حقه ليعيش حياة كريمة وآمنة. دون أن يكون هناك تضارب بين مصالح الأفراد ومصالح المجتمع، لكن ما يميز هذا المفهوم هو أنه لا يعني التخلي عن حرياتنا الفردية بالكامل، بل نحن نتنازل عن تلك الحريات التي لا تؤدي إلى الفوضى أو تضر بالمجتمع، ونحتفظ بتلك الحريات التي تضمن لنا الكرامة و الأمن و الاستقرار. وبذلك يصبح الفرد أكثر حرية في ظل نظام يضمن المصلحة العامة، وهذا التوازن هو السبيل الوحيد لبناء مجتمع متوازن ومتكامل، حيث يستطيع كل فرد تحقيق حريته الفردية. وفي الوقت نفسه يساهم في تحقيق الصالح العام، إذا هذا مزيج فريد بين الحرية الفردية والحرية الجماعية بين ما نريده لأنفسنا وما هو الأفضل للجميع.

يتبع …..

وسوم: العدد 1113