صفقة الأمل المحظور وهجوم الاحتلال على الضفة

يختصم المتابعون لتداعيات الحرب الإسرائيلية على تقييم لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار في غزة، والشروع بتنفيذ صفقة تبادل الأسرى الفلسطينيين مع الرهائن، الأحياء منهم والجثامين، الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة المقاومة الإسلامية حماس. البعض يدّعي، أو يشعر بأن إسرائيل هزمت في هذه الحرب، أو على الأقل لم تنتصر فيها تماما، وأن حماس لم تهزم تماما، أو على الأقل، لم تلقِ سلاحها ولم ترفع الراية البيضاء. لا معايير محددة يمكن الإجماع عليها واعتمادها كمقاييس مثبتة لتحديد معالم النصر أو الهزيمة، خاصة أن إسرائيل تعتبر أن قرار وقف النار هو قرار مؤقت، وقد تستأنف الحرب بعد انتهاء مراحل تنفيذ الصفقة، أو إذا أخلّت حماس بالتزاماتها؛ ومن السابق لأوانه تحديد نتيجة الحرب النهائية والإعلان عمن انتصر ومن هزم فيها عسكريا وسياسيا.

لن تشغلني تلك النقاشات ولا أهداف المشاركين فيها أو اعتباراتهم الحركية/ الفصائلية/ الحزبية السياسية، وخوف بعضهم من احتمالات تأثيراتها على مستقبلهم السياسي؛ ولكن، إن كان لا بد لي من تقييم الصفقة كونها إحدى محطات الحرب الحالية، على أن أفعل ذلك بمنأى عن نتائجها الميدانية وهول الخسائر البشرية والمادية المتحققة، وتداعيات الحرب على مصير القضية الفلسطينية، فإن حيّدنا جميع هذه العناصر، يمكن اعتبارها هزيمة لحكومة إسرائيل التي حاولت طيلة 470 يوما من القصف والدمار والقتل أن تحرر الرهائن الإسرائيليين بالقوة، لكنها فشلت، واضطرت أخيرا، بسبب تراكم عدد من العوامل، أن تقبل الصفقة.

شكّلت صفقات الإفراج عن الأسرى في تاريخ النضال الفلسطيني دوما جرعات ضد اليأس، إنها صهاريج لتوليد الفرح الذي يحاول المحتلون أن يقتلعوه ويمحوا معالمه

كان حزب «عوتسما يهوديت» ورئيسه ايتمار بن غفير، الجهة الوحيدة التي تمسّكت بموقفها الرافض لوقف إطلاق النار، ولعقد الصفقة دون التزام رئيس الحكومة باستئناف الحرب والاستمرار بها حتى القضاء الكامل على حركة حماس، والاحتفاظ بأرض غزة والاستيطان فيها، وإخضاعها للحكم الإسرائيلي. وقد أدّى موقفهم هذا إلى استقالة وزراء الحزب من حكومة نتنياهو، في خطوة يتوخون منها تعزيز قوة حزبهم بين أوساط اليمين المتدين المسياني الاستيطاني والفئات القومجية. يعرف المحللون والمتابعون أنه لو كان وزراء حزب الليكود يملكون «عصماتهم السياسية» لما صوّتوا لصالح الصفقة، بل كانوا، مثل وزراء آخرين في الحكومة، معنيين بأن ينهي جيشهم «مهمته المقدسة» حتى تحقيق أهداف الحرب الحقيقية، وهذا يعني، في غياب تحديد أي هدف سياسي واضح ومعلن للحرب، الاستمرار في قتل الفلسطينيين وإتمام تطهير القطاع وتهجير سكانه وتدميره الشامل. وإذا احتسبنا أن الإعلان عن الصفقة هو هزيمة لحكومة نتنياهو ومخططاتها الحقيقية، يمكن احتسابه نصرا لصالح حركة حماس، ولو من باب كونه إنجازا «مرمّما» لآمال الفلسطينيين، الذين وقفوا على تخوم التيه وفقدان سبل النجاة، وكادت مشاهد جثامين أحبابهم أن تطمر آمالهم؛ فالصفقة تمّت في زمن عقم الضمائر، وتفشي الخيانات وبعد أن تخطت إسرائيل كل الحدود ومارست كل المحظورات. ليس مهمّا كيف تلقى قادة الحركات والفصائل الفلسطينية، أنباء الإعلان عن الصفقة؛ فمنهم من سيحاول ترصيدها في خزائنهم التنظيمية وإدراجها في سجلات غنائمهم السياسية، ومنهم من «سيلوكونها» كمضغة قات ويبعدون أنفسهم عن عواقب غد معقود على أهوال القدر.

ليست مهمّة دوافع جميع أولئك، الخاصة منها والفئوية؛ فوقع الصفقة يتخطاهم ويتخطى لحظة الدم الحاضرة وإغواءات «نصر» متلعثم على عتبات تبكي على ركام بيوتها وضياع أصحابها. الصفقة هي حدث مؤثر على إحداثيات قوس الحرية، من شأنها، إذا تمت أن تجهض مكائد «السجان الإسرائيلي» وتنسف كل ما خطط له خاصة منذ عام 2007 بعد أن وقع أسفين الفرقة بين أخوة الكفاح. لقد واجه الأسرى الفلسطينيون جميع صنوف التنكيل والقمع والتعذيب منذ يوم الاحتلال الأول، إلا أنهم عرفوا دائما، بصمود لامَسَ المعجزات، كيف يفشلون مؤامرات سجانهم ويبقون موحدين على عهود النضال والتضحيات، من أجل الحرية والكرامة وحب فلسطين. كانت السنوات الأخيرة أقسى السنوات على الحركة الأسيرة، فحكومة إسرائيل الحالية قررت أن تحاربهم بأساليب قمع واضطهاد غير مسبوقة. وكان عنوان معركتها معهم كسر روح النضال عند كل أسير وأسيرة، وتوصيلهم إلى قناعات بأن نضالاتهم كانت سدى، وأنهم سيعيشون في الأسر كالعبيد، ولن يحرروا إلا وهم أذلّاء ومهزومين، أو جثامين منسية. أعرف الكثيرين من الأسيرات والأسرى الذين حرروا مؤخرا، وأولئك المرشحين للإفراج في النبضة القادمة. تحضرني تفاصيل سنيّ أسرهم وكيف قضوا زهرات أعمارهم وراء القضبان، أتذكر مسيرات صمودهم، وتمسكهم بقناعة «وقد بلغوا قمة الموت» بأن يوما ما سيأتيهم «بعد انتحار القحط.. مع الشمس طائر الرعد»؛ والسلام لروح صاحب «طائر الرعد» الشاعر سميح القاسم. أتذكر وأتخيل وجوههم وهي مغمورة «بفرح حزين» وفي مآقيهم تستعيد بذور الأمل خضرتها.

في هذه الحرب كانت الصدارة لمشاهد جثث الغزيين بعد أن أسقطتها، بعبثية وحشية، نيران جيوش «نيرون»؛ ولمشاهد أرتال النازحين وطوابير النساء والأطفال وهم يغوصون في سحابات من غبار هاربين من وجع إلى عدم. وكانت صور الركام تحاكي روحا بشرية جوفاء رمادية، وتذكر كيف يعق الإخوة بإخوتهم، وكيف يخون ويتآمر الأشقاء. هكذا كان قلب المشهد وهكذا سيبقى؛ بيد أن إعلان وقف إطلاق النار أعاد للتراب أنفاسه وللعيون ماءها. وحين أعلنت صفقة التبادل عادت قضية الأسرى للواجهات وذكّرت العالم والإسرائيليين أيضا، أن الأسرى هم زاد الحرية المغتصبة «وحطب الثورة» التي مهما أخمدت نيرانها، سيأتي يوما «حادٍ» وينفخ في رمادها لتصبح وبالا على مغتصبيها. ليس صدفة أن يستقيل وزير الأمن القومي في أعقاب موافقة الحكومة على الصفقة؛ فهو من نظّر لضرورة محاربة الأسرى الفلسطينيين في السجون، التي تخضع لسلطة وزارته؛ وهو من باشر بالتطبيق الفعلي ونجحت أجهزة وزارته بتسجيل تقدم كبير في تنفيذ مخططاتها واضطهاد الأسرى بشكل غير مسبوق. لقد استهدفت سياساته المدعومة بموقف الحكومة وبأغلبية بين أعضاء الكنيست، ليس تحطيم تنظيم الحركة الأسيرة، وهدم تماسكها التاريخي وحسب، بل أيضا استهدفت تحطيم معنويات الأسرى أنفسهم وإغراقهم بمشاعر اليأس، وحجب الفرح عن حياتهم اليومية. في هذه الظروف جاء إعلان الصفقة، فبعثت بشائرها شلحات من الأمل ونفحات من سيرة أصيلة وأعادت للفضاء تراتيل من قادوا القوافل جيلا بعد جيل. ثم جاءت مشاهد العائلات وهي تستقبل غواليها الخارجين من «وراء الصقيع» ويترنح الفرح على عنات القصب وتضحك السماوات فوق فلسطين وتفجّ سيوف النور فحمة اليأس وتنغمد في حلوق الطغاة والطواغيت؛ وكانت إسرائيل الطاغية تنظر وتعتصر عنصرية وتأهبا. شكّلت صفقات الإفراج عن الأسرى في تاريخ النضال الفلسطيني دوما جرعات ضد اليأس، إنها صهاريج لتوليد الفرح الذي يحاول المحتلون أن يقتلعوه ويمحوا معالمه.

بعيدا عن جميع التعقيدات والشوائب، أفرحت الصفقة الفلسطينيين ولو بقدر بسيط وإلى حين، ولذا فهي علامة من علامات نصرهم الصغير؛ وقد أغضبت الصفقة حكومة الإسرائيليين لذا فهي علامة من علامات هزيمتهم. لقد غضبوا في الخفاء فجاء ردهم مكشوفا وقاسيا وهذه المرة في الضفة المحتلة. ما نراه في الضفة من عمليات عسكرية واعتقالات واعتداءات ونصب الحواجز، ما بين دائم ومتحرك، حتى وصل عددها في هذه الأيام إلى ما يقارب 898 حاجزا، هي نذائر حرب جديدة ستسقط مزيدا من الضحايا وتخلف الدمار وستقول نيرانها للفلسطينيين: لا تفرحوا بأسراكم المحررين، ولا تذهبوا بعيدا في بحور الأمل. عليكم كتبت الهزيمة واليأس مأواكم؛ فلا حرية لكم ولا فرح ولا أمل لديكم. إنها أرض الحروب السماوية الأبدية.. من قال إنها بلاد السمن والعسل!

وسوم: العدد 1113