من رؤية في مفهوم العقد الاجتماعي في فكر روسو: الجزء الثاني

asffdfg114.jpg

1- تأثير العقد الاجتماعي على السياسة الحديثة: لم تقتصر أفكار روسو على تغيير المجتمعات الأوروبية في زمانه، بل امتدت لتصبح الأساس الذي تستند إليه الكثير من الأنظمة السياسية الحديثة في جميع أنحاء العالم، لقد أحدث العقد الاجتماعي تحولا في الفكر السياسي قبل روسو و كان الناس يؤمنون أن السلطة تأتي من الملك أو من الله مباشرة، وأن الحكام لهم الحق في الحكم دون اعتبار لعامة الشعب . لكن روسو قدم مفهوما ثوريا هو أن الشعب مصدر السلطة، والحكومة يجب أن تعكس إرادته العامة. وبذلك شكلت أفكاره أساسا لأكبر التحولات السياسية في التاريخ الحديث، على سبيل المثال الثورة الفرنسية عام 1789، تلك الثورة التي كانت ردة فعل على الأنظمة الملكية المطلقة والقمع الاجتماعي، واستلهمت قيمها وأفكارها بشكل كبير من أفكار روسو حول الحرية و المساواة و الأخوة و هذا شعارها وما تطمح إليه. لقد أكدت أفكار روسو على السيادة الشعبية في القرنين الثامن و التاسع عشر الميلاديين، و لا تزال هذه الأفكار قائمة حتى يومنا هذا. لكن هذا التأثير لم يتوقف عند الثورات ، بل أصبح جزءا لا يتجزأ من الفلسفات السياسية ، التي نراها في الحكومات الديمقراطية الحديثة، بمعنى أن معظم الحكومات الديمقراطية تستند إلى فكرة أن الشرعية السياسية تأتي من الشعب، وأن النظام الانتخابي هو الذي يتيح للناس اختيار قادتهم و ممثليهم، وهو تطبيق مباشر لمبدأ روسو بأن السلطة يجب أن تنبع من الإرادة العامة، وليس من مجموعة نخبوية صغيرة حينما نقف في طوابير التصويت نحن في الواقع نمارس مبدأ العقد الاجتماعي؛ الذي يجعل منا جميعا جزءا من هذه العملية السياسية، لكن تأثير روسو لم يقتصر على الديمقراطية السياسية و حسب، بل نجد أفكاره في الأنظمة الدستورية والقانونية أيضا. حول العالم الدساتير التي تحكم الكثير من الدول اليوم تعتبر أن الشعب هو مصدر السلطات وأن القوانين يجب أن تكون انعكاسا للإرادة العامة وليس لقرارات فردية أو طبقية؛ حتى على مستوى العلاقات الدولية، نجد تأثيرات العقد الاجتماعي في مبادئ حقوق الإنسان التي تتبناها الأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الدولية جميعها مستوحاة من فلسفة روسو، لكل فرد حقوق غير قابلة للتصرف و أن على الحكومات أن تعمل لصالح شعوبها و ليس ضدهم، هذه واحدة من أهم تطبيقات العقد الاجتماعي في السياسة الحديثة .

2- مفهوم المواطنة: بموجب هذا العقد غير المكتوب بين المواطن و الدولة يلتزم الفرد بالقوانين و يحترم النظام، مقابل أن تضمن له الدولة حقوقه الأساسية، الحق في الحرية والعدالة والمساواة. هذا التوازن بين الواجبات والحقوق هو جوهر العقد الاجتماعي.

لقد أحدثت أفكار روسو تحولا في نظرة الناس إلى الحكومة والسلطة و لم يعد الحاكم هو السيد المطلق. بل صار ممثلا عن إرادة الناس وبهذا أصبحت المجتمعات الحديثة مبنية على فكرة المشاركة والمسؤولية المتبادلة بين الحكومة والمواطنين، سواء كنا في بلد ديمقراطي يتاح لنا التصويت فيه، أو في مجتمع يعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية . نحن نعيش اليوم في ظل تأثير مباشر لأفكار جان جاك روسو. كلما تقدمت الديمقراطيات و تطورت الأنظمة، نجد أن فكرة العقد الاجتماعي تظل ركيزة أساسية لأي نظام يسعى لتحقيق الحرية والمساواة.

3- التحديات و التطبيق:

بالرغم من الانتشار الواسع لأفكار جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي، التي أسست أكبر التحولات في الفكر السياسي و الديمقراطي، إلا أن هذه التحديات تواجه تطبيق هذه الأفكار في عصرنا الحالي. على سبيل المثال تتعرض مفاهيم الإرادة العامة والحرية والعدالة لاختبارات متكررة في بداية الأمر كفكرة الإرادة العامة، تبدو هذه الفكرة بسيطة كما تحدث عنها روسو، لكنها تعني أن المجتمع ككل يحدد ما هو الأفضل له. لكن في عصرنا الحديث وفي ظل التعددية الهائلة في الآراء و القيم، يمكن أن لا يتفق الأفراد على إرادة عامة واحدة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي و القدرة على التعبير الحر في كل لحظة. إذا التحدي الأول الذي يواجه العقد الاجتماعي هو كيفية تحديد إرادة عامة في مجتمع منقسم إلى مجموعات ذات مصالح و آراء متباينة! ليس هذا فحسب، بل إن النظام الديمقراطي الذي يرتكز على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات يتعرض لضغوط بسبب انتشار الشعبوية والتلاعب بالمعلومات وحتى التدخلات الخارجية في الانتخابات! كيف يمكننا التأكد من أن الإرادة العامة، التي تظهر في الانتخابات تعبر حقا عن مصلحة الجميع وليست مجرد انعكاس لتأثيرات مؤقتة أو أجندات خاصة. هذا التحدي يطرح سؤالا حيويا هل الديمقراطيات الحديثة ما زالت قادرة على تحقيق الإرادة العامة كما تصورها روسو؟ وهل يستطيع المواطنين اليوم في ظل الضغوط السياسية والاقتصادية أن يشاركوا بفعالية في صنع القرار؟!

-التحدي الثاني: يتمثل في التفاوت الاقتصادي في العديد من المجتمعات الحديثة والفجوة بين الأغنياء والفقراء، أصبحت تتسع بشكل مقلق هذا التفاوت يجعل العقد الاجتماعي هشا، لأنه يخلق شعورا بعدم المساواة. لقد اعتمد روسو على مبدأ المساواة بين الأفراد لكن ماذا يحدث عندما تصبح الفروقات الاقتصادية والاجتماعية كبيرة جدا ؟ في كثير من الأحيان يشعر الفقراء والطبقات المهمشة بأن القوانين والأنظمة لا تخدم مصلحتهم؛ بل تخدم النخب السياسية والاقتصادية، وهذا يقود لعدم الثقة بالنظام السياسي ويجعل البعض يتساءل هل العقد الاجتماعي يخدم الجميع اليوم بالتساوي؟ أم أنه صار عقدا خاصا بالنخب؟

التحدي الثالث: هو الحرية الفردية مقابل الأمن الجماعي في عالم ملئ بالتحديات الأمنية مثل الإرهاب والجرائم الإلكترونية والأوبئة، و قد يتطلب ذلك من الحكومات فرض قيود على الحريات الفردية، من أجل حماية المجتمع . لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا؟ كيف يمكننا الحفاظ على التوازن بين الحرية والأمان؟ و إحدى أهم الأمثلة الحية ما حدث خلال جائحة كوفيد! بعض الحكومات فرضت قيودا على حركة التجمع والأخرى اعتبرت ذلك تقييد لحركة الآخرين!

التحدي الرابع: التكنولوجيا الحديثة في عصر الرقمنة والرقابة و المعلومات، حيث أصبحت الحكومات والشركات قادرة على مراجعة تحركات الأفراد بشكل غير مسبوق ما كان يعد في السابق حريتنا الشخصية، صار اليوم في متناول المؤسسات الكبرى. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل هذه المبادئ تتعارض مع مبادئ الحرية التي أرادها روسو؟ وما هي فكرة الحرية التي أرادها روسو؟ إن فكرة الحرية التي تحدث عنها روسو كانت تتعلق بإرادة الفرد في أن يعيش دون تدخل مبرر من قبل السلطات، لكن في العصر الرقمي قد تكون الحرية مهددة بطرق لم يكن روسو يتوقعها ! إذا كيف يمكننا تطبيق مبدأ الحرية في ظل المراقبة المتزايدة التي نعيشها اليوم؟! ومع ذلك لا تزال فكرة العقد الاجتماعي أداة مهمة لفهم و تحليل العلاقات بين الأفراد والدولة، لكن في عصرنا الحديث تواجه هذه الفكرة تحديات جديدة تتطلب إعادة تفكير و تكيف مع الظروف الراهنة ! لذلك كان التحدي الخامس:

وهو كيف نجد طريقة لتكييف هذه المبادئ مع العصر الرقمي و المجتمعات المتنوعة وكذلك التحديات، التي لم نكن نتصورها قبل ثلاثة قرون! لقد كانت أفكار روسو في العقد الاجتماعي مجرد الأساس الذي قامت عليه الديمقراطيات الحديثة، ووضعت إطارا جديدا للعلاقة بين الفرد والدولة. وكانت أفكار ثورية في زمنها نقلت السلطة من يد الحكام المستبدين إلى أيدي الشعب، ولكن هذه الرحلة واجهتها الكثير من التحديات. و لعل التحديات التي تواجهها في عصرنا، عصر ثورة المعلومات الهائلة هي أكبر بكثير من تلك التي واجهت المجتمعات السابقة . لكن ما يبقى ثابتا هو إيماننا بالحرية والمساواة والعدالة في العقد الاجتماعي، فهذه ليست مجرد فكرة تاريخية بل! مبدأ يتطلب منا التفكير بكيفية تطويره باستمرار، لتشكيل مجتمعات أكثر عدالة تعكس مصلحة الجميع للعيش في عالم يحترم بعضه بعضا، ويحترم حقوق الإنسان، ويعزز مكانة الحرية والعدالة للأجيال القادمة. لقد كانت فلسفة روسو، فلسفة فريدة حقا غيرت مفهوم السلطة المستبدة والحكم المستبد إلى سلطة وحكم أكثر انفتاحا وديمقراطية.

يتبع ……

وسوم: العدد 1114