مصير الكتاب والمكتبة الورقية في عالم التقنية الرقمية

أ. د. غيثان بن علي جريس

إنَّ الحديث عن الكتاب والمكتبة الورقية يحتاج إلى آلاف الصفحات حتى نلم بتاريخ هذا الجانب الحضاري المهم. ومن يطالع فهارس المكتبات العربية والإسلامية والأجنبية فسيجد مئات الكتب، والبحوث العلمية، والرسائل الجامعية التي أرخت لبداية الكتابة بطرق عديدة منذ آلاف السنين قبل الميلاد، ثم خلال العصور القديمة، والإسلامية المبكرة والوسيطة والحديثة. وكذلك الوضع نفسه جرى على نشأة المكتبات العامة ثم الخاصة منذ العصر اليوناني، والعصور الوسطى في شرق العالم وغربة.

كانت الكتابة أو التدوين غير منتشرين عند العرب والمسلمين خلال العقود الأولى من عصر الإسلام، لكن بسبب الحركة الدينية والعلمية التي بدأت مع نزول القرآن الكريم، وسنة الرسول(صلى الله عليه وسلم)، وما في هذين المصدرين الشرعيين من حث على العلم والقراءة، وما نتج عن ذلك من حفظ ودراسة للقرآن والحديث الشريف في الصحائف والمخطوطات وبعض الكتب، عندئذٍ بدأت الكتابة ثم المكتبات.

من يدرس ويتعمق في دراسة الحضارية الإسلامية يجد أنَّ الكتاب والمكتبات من أهم المؤسسات الثقافية والحضارية التي اعتنى بها المسلمون، وكان لها دور كبير في حياة الأمتين العربية والإسلامية، وغيرهما من دول وحضارات العالم، وقد عرفت أمة الإسلام أنواعًا متعددة من المكتبات لم تعرفها أي حضارة أخرى. وانتشرت المكتبات في أرجاء العالم الإسلامي، وذكرت العديد من المصادر والمراجع الكثير من أنواع المكتبات في قصور الخلفاء، والسلاطين، والوزراء، والأمراء والقضاة ، والعلماء، وفي المدارس والكتاتيب والجوامع والمساجد. كما وجدت مكتبات متنوعة في أحجامها وأنواعها في المدن والحواضر وبعض القرى والأماكن البعيدة في المناطق والأرياف. وهذا مما يؤكد على تأصل حُب العلم لدى أبناء الحضارة الإسلامية.

وتاريخ المكتبات الورقية عند حضارات الكرة الأرضية منذ عهود ما قبل الميلاد حتى ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، ثم عصور الإسلام في قارات آسيا، وإفريقيا، وأوروبا وغيرها من عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى العصر الحديث مكتوب وموثق في مؤلفات ودراسات كثيرة مطبوعة ومنشورة باللغة العربية وغيرها من لغات العالم القديمة والحديثة. ولا أريد الإسهاب في هذا الباب، وشرح تطور الكتاب والمكتبات الورقية في العالم، بل فقط أشير إلى تراجع هذا الميدان المعرفي في كل مكان، بعد اكتشاف الإنترنت (الشبكة العنكبوتية) وظهور مصادر المعرفة الرقمية الجديدة (الكتاب والمكتبات). وفي النقاط التالية أدون شيئًا مما عرفته ورأيته وعاصرته خلال هذا القرن (15هـ/20ــ21م):

1- قرأت ثم شاهدت مئات المكتبات الورقية العامة والخاصة، الرسمية والأهلية داخل المملكة العربية السعودية، وفي العوالم العربية، والإسلامية، والأجنبية وكانت جميعها تؤدي أعمالها لخدمة الحياة العلمية والثقافية والتنويرية. ولم تكن على مستوى واحد في مقراتها، ومكانتها، وإداراتها أو ملكيتها، ومحتوياتها، بل تتفاوت في كل ذلك حسب منزلتها السياسية والإدارية والتعليمية والحضارية، وكذلك الجوانب المالية والتمويلية من أهم العوامل في نشأة أي مكتبة ورقية مهما كان نوعها أو مكانة المسؤولين عنها.

2- شاهدت في كثير من الدول العربية والإسلامية والأجنبية أنَّ الكتاب والمكتبة الورقية الرسمية أو الأهلية كانت في أوج نشاطها وخدمتها للبشرية من تسعينيات القرن (14هـ/20م) إلى عشرينيات هذا القرن (15هـ/21م). وفي الوقت نفسه كنت أرى التقنية الحديثة تدخل كل مكان في المؤسسات الحكومية الرسمية وبعض المؤسسات الأهلية. وكانت المكتبات الورقة إحدى القطاعات التي وظفت الكمبيوتر وما تلاه من تقنيات رقمية في كثير من أعمالها اليومية، لكنني حتى عشرينيات هذا القرن (15هـ/21م) لم أشاهد استخدام الكتاب الرقمي، وفي غضون عشرين عامًا (1425ـــ 1446هـ/2004ـــ 2024م) جرت تطورات تقنية سريعة وهائلة، وصارت أي مادة علمية ( كتاب، أو بحث ، أو تقرير، أو رسالة علمية جامعية، أو مذكرة عامة أو خاصة، أو صور فوتوغرافية، أو أفلام أو فيديوهات وغيرها) تُرسل وتُنقل من مكان لآخر عبر الفضاء، ويتم استخدامها والاستفادة منها في زمن أقصر وأسرع من المواد الورقية.

3- بحكم عملي كأستاذٍ جامعيٍّ ومؤلفٍ وباحثٍ خلال الخمسين سنة الأخيرة (1396ـــ1446هـ /1976ـــ2024م)، فقد شاهدت هذه التحولات في عالم الكتاب والمكتبات الورقية ثم الرقمية، وفي بدايات هذا القرن (15هـ/20م) رأيت الكثيرَ من الجهود التي يبذلها القائمون على المكتبات الرسمية، أو حتى أصحاب المكتبات الخاصة عندما يزودون مكتباتهم بالمصادر والمراجع الورقية. وفي عشرينيات ثم ثلاثينيات القرن الحالي بدأت بعض المكتبات الحكومية تزود مكتباتها بآلاف الكتب والدراسات الرقمية التي يتم الاطلاع عليها من خلال أجهزة الحاسب الآلي في كل مكتبة جامعية وغيرها من المكتبات الرسمية الكبيرة.

4- إنَّ عقْدَي العشرينيات والثلاثينيات وما تلاهما من هذا القرن (15هـ/21م) يُعدان من أصعب الفترات التي واجهت الكتاب الورقي، حيث إنَّ هناك عراكًا عنيفًا مع الكتاب أو أي مادة علمية رقمية. ووجدتُ الكتابَ الرقمي يحوز على نجاحات كبيرة في مسيرته التاريخية، فالقراء والدراسون وغيرهم من طلاب العلم والثقافة تتزايد أعدادُهم بنسب كبيرة، في حين أنَّ روادَ الكتاب الورقي تقل أعدادُهم بشكل ملحوظ.

5- من خلال زياراتي خلال العشر سنوات الأخيرة (1435ــــ 1446هـ/2014ـــ 2024م) مئات الأفراد والمكتبات الجامعية أو المكتبات العامة والخاصة داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، لاحظت أمورًا عديدة لها علاقة بالكتاب الورقي والرقمي، ومنها:

أ ـــ رأيت بعض الوزارات أو المؤسسات ألغت المكتبات الورقية التي تتولى أمرها وتشرف عليها. وقد قابلت بعضَ المسؤولين أو العاملين في بعض تلك المكتبات الكبيرة والضخمة، فقالوا: قد قلَّ روادهُا، وصار الناسُ يتعاملون مع أي كتاب أو مصدر ثقافي أو معرفي عن طريق الإنترنت، ثم ذهبت إلى بعض المكتبات الجامعية الورقية التي مازالت قائمة فوجدت المسؤولين عنها يشتكون من قلة المرتادين للمكتبة، بل بعضهم ذكروا لي أنَّ مؤسساتهم أو جامعاتهم تخطط لإلغاء المكتبة الورقية، أو توزيعها على كليات الجامعات حسب التخصصات.

ب ـــ زرت مكتبات جامعية داخل المملكة العربية السعودية وخارجها خلال هذا العقد فوجدتها تراجعت كثيرًا في تزويد مكتباتها بالكتاب الورقي، وحجة القائمين عليها ضعف الدعم المادي، وطغيان الكتاب الرقمي على الورقي. لكن الذي لفت نظري الكميات الورقية الهائلة المحفوظة في تلك المكتبات، التي يجب تحويلها إلى مواد رقمية حتى تعم فائدتُها، وتحدثت مع المسؤولين في بعض المكتبات التي زرتها وسألتهم هل هناك خطة لتحويلها، فذكروا أنه ليس هناك أي شيء يلوح في الأفق، وأضافوا أنَّ هناك صعوبات عديدة على تحويلها، ومن تلك المعوقات أمور مادية مالية، وفنية وتقنية، وعلمية وحقوق الملكية الفكرية.

ج ــ انصراف الكثير من الطالبات والطلاب، والأساتذة، والقراء عن الكتاب الورقي، وتفضيلهم الكتاب أو المادة العلمية الرقمية التي يحصل عليها من خلال الجهاز النقال، أو وسائل تقنية أخرى.

والذي حصل من تطورٍ تقني في كل شيءٍ له إيجابيات كثيرة يصعب حصرها، لكن الكتاب أو المكتبة الورقية مهما كان نوعها تساعد في عمق المعرفة والرصانة العلمية. فالطالب عندما يُكلف بعمل علمي ما تجده في الوقت الحالي يدخل على إحدى محركات البحث الرقمية ويحصل على بعض المادة العلمية التي يريدها لإنجاز عمله، لكنها في الغالب ضعيفة وهشة، مقارنة بالرجوع إلى المصادر والمراجع الورقية وبذل جهود طالب العلم الجاد للحصول على العلم والمعرفة من مصادرها الرئيسية. ولا ننكر أنَّ هناك مكتبات وكتب علمية رقمية جيدة لمن يتعامل معها بإخلاص واجتهاد حقيقيين. والذي ذكرته وعرفته وعاصرته مع طالباتي وطلابي المتأخرين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وقارنت أوضاعهم مع طلاب علمتهم وتعاملت معهم خلال العقدين الثاني والثالث من هذا القرن (15هـ/20ــ21م) فكان الأوائل أفضل بكثير في الجد والاجتهاد، والتعامل مع الكتب والمراجع الورقية.

د ـــ التقيت بالعديد من الزملاء والأصدقاء أساتذة جامعات وبعض الأدباء والمثقفين في دول عربية وإسلامية وغيرها، ووجدت أعدادًا غير قليلة منهم تخلصوا من مكتباتهم الخاصة، فمنهم من وزعها على مكتبات عامة أو خاصة، وآخرين أهملوها وأصبحتَ مقفول عليها في إحدى مرافق المنازل التي يعيشون فيها، ومنهم من تركها في مكان قديم ومهجور وانتقل إلى مكان آخر داخل المدينة أو الحاضرة التي يسكنها، أو في منطقة أو ناحية بعيدة عن مقر المكتبة. وتناقشت مع عدد منهم فكانت إجاباتهم متنوعة، فمنهم من قال أُفضل الكتاب الرقمي لسهولة الحصول عليه، وآخرين ذكروا أنَّ المكتبة الورقية تحتاج إلى رعاية وعناية واضحة، وصاروا غير قادرين على خدمتها والحفاظ عليها، وأعرف البعض من هذه الشريحة؛ فقد كانوا أساتذةً مميزين في علومهم وتخصصاتهم، ولهم سيرة علمية حافلة بنتاجهم المعرفي، لكنهم للأسف صاروا متقدمين في السن، ولا يجدون حولهم من يساعدهم ويتعاون معهم في مواصلة نشاطاتهم العلمية.

ومن المواقف المحزنة والمبكية في عالمنا العربي أنني كنت ذات يوم في إحدى المجالس الاجتماعية التي تضم أكثر من خمسين أستاذًا جامعيًّا، وجاء أحد الأساتذة ومعه ثلاثة صناديق فيها بضعة مؤلفات صدرت حديثًا، وبدأ يوزعها هدايا للجالسين، فالبعض منهم قالوا لا نريد الهدية كتابًا ورقيًّا، ونفضلها فقط رقمية. ومثل هذه الحالة منتشرة في مجتمعاتنا المعاصرة، وهذا يؤكد على أنَّ الوعاء العلمي الورقي صار زهيدًا وغير مرحبٍ به في تجمعاتنا ولقاءاتنا العلمية والثقافية والمعرفية.

هـ ــ زرت بعض مطابع الجامعات العربية فوجدتهم لا يطبعون من مجلات الجامعة وكتبها وتقاريرها السنوية إلَّا أعدادًا قليلة جدًا، لا تتجاوز أحيانًا عشر أو عشرين نسخة ورقية، ويضعون المادة المكتوبة على مواقع ومنصات افتراضية، ويذكرون الكثير من الحجج لإنجاز عملهم كتوفير الصرف المادي، وسهولة استخدام المادة المنشورة رقميًّا. كما زرت بعض المطابع التجارية في عدد من الدول العربية، وجميعهم يشتكون من ضعف إيراداتهم لتراجع خدمة الكتاب الورقي. وصار هناك تجارات كتب رقمية كثيرة ونشطة جدًا بجميع لغات العالم. ونلاحظ التطور التقني الكبير والمتسارع الذي أثر وسوف يؤثر بشكل رهيب على جوانب كثيرة في حياة الناس.

وقد نصل في يوم ما إلى اختفاء الكتاب والمكتبات الورقية، وإنْ حدث ذلك فسوف يكون هناك آثار سلبية وخطيرة جدًا على الحياة العلمية والتعليمية، وبخاصة لو حدث للشبكات الرقمية العاملة في الفضاء خراب أو تلف أو تدمير. والواجب على صناع القرار والمخططين في العالم أنْ يوجدوا حلولًا إيجابية للحفاظ على الكتاب الورقي وعدم تلاشيه من الوجود، ولا يمنع أن توظف التقنية في خدمة المعرفة وفي شتى المجالات، لكن ليس على حساب القضاء على المصادر العلمية الورقية التي هي الأساس في بقاء العلم والمعرفة موجودة وملموسة بين البشرية. وصلى الله وسلم على الرسول الكريم محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام. .. حرر في يوم الاثنين (4/8/1446هـ الموافق 3/2/2025م) .

sfgsgf1114.jpg

أ . د .غيثان بن علي بن عبدالله بن جريس

مؤرخ تهامة والسراة – من مواليد عام 1379 هجري – 1959م في منطقة عسير بالمملكة العربية السعودية – حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ والحضارة الإسلامية عام 1400 هجري/ 1980م من جامعة الملك سعود (سابقا)-ثم حصل على الماجستير عام 1404 هجري / 1984م من جامعة انديانا بالولايات المتحدة الامريكية – كما حصل على درجة الدكتوراه في قسم الدراسـات الشرقية بجامعة مانشستر(University of Manchester) في بريطانيا- عاد إلى كلية التربية بأبها ليعمل أستاذا مساعداً بقسم التاريخ في الكلية ، وفي أواخر عام 1410 هجري/  1990م أصبح رئيساً لقسم التاريخ في الكلية واستمر في هذا المنصب حتى عام 1423 هجري/ 2003م ، وقد ترقى إلى درجة أستاذ مشارك في أوائل عام1414هجري  1993م ثم ترقى إلى درجة أستاذ اوائل عام1418 للهجره / 1997م- ويعد أول من حصل على درجة الأستاذية من خريجي فرعي جامعة الملك سعود والإمام محمد بن سعود الإسلامية بأبها جامعة الملك خالد حالياً )) .

وسوم: العدد 1114