الحاكمية بين العلمانية والإسلام إذا ! لمن الحكم؟
لقد أثارت العلمانية بمفهومها المتجدد الجدل و شكلت منعطفا فكريا في المنطقة العربية و الإسلامية، و تدعو العلمانية في شكلها الحالي في العالم الغربي إلى أنها اتجاه يدعو لفصل الدين عن الدولة! و هذا المفهوم سأتوقف عنده في سلسلة مقالات أخرى… لكن سأعتبر أن هذه المقالة هي بداية و أرجو أن تكون موفقة كمقدمة عن الموضوع بشكل مبدئي.
لقد استلهمت الفكرة العديد من الكتاب و المفكرين الغربيين و كذلك العرب أمثال المسيري . و ارتبطت بالاستعمار و لديها تصورات كمشروع مناهض للدين والثقافة الشعبية فهل هي دعوة لتحرير الفكر؟ أو إقصاء الدين؟ تبدو العلمانية فكرة معقدة حيث تدعو إلى فصل المؤسسات الدينية عن شؤون الحكم، وهذا يعني أن الدين يجب أن لا يدخل في إدارة الدولة و قد عرفها الفيلسوف الفرنسي "جان بوبيزو" بأنها حرية من الدين؟!
و هذا يعني أن الناس أحرار في ممارسة دينهم أو عدم اعتناق أي دين على الإطلاق! يجب أن لا تجبرهم الحكومة على ذلك. وتشدد العلمانية على منح الجميع حقوقا متساوية، بغض النظر عن معتقداتهم و تهدف إلى خلق مجال عام ومحايد، وهذا يضمن أن القوانين تستند إلى العقل و ليس إلى المبادئ الدينية. و يرى كثيرون أن هذه الحيادية ضرورة لحماية الحريات الفردية كما أنها تعزز التسامح والتعايش في المجتمعات المتنوعة. و لقد لعب الاستعمار دورا مهما في إدخال الأفكار العلمانية إلى "الشرق الأوسط "خلال فترة احتلاله للعالم العربي، وقد شجعت القوى الاستعمارية في كثير من الأحيان القوانين و المؤسسات العلمانية، ورأوا في ذلك وسيلة لتحديث هذه المجتمعات، و إضعاف نفوذ الإسلام، وقد أدى ذلك إلى إنشاء منظمات تعليمية و مدونات قانونية علمانية في العديد من بلدان العالم، ومع ذلك كان لفرض العلمانية من قبل الاستعمار عواقب سلبية. و قد أدى ذلك في كثير من الأحيان إلى تعطيل هياكل السلطة التقليدية، وخلق حالة فوضى بل واستياء من قبل بعض الشرائح المجتمعية، وساهم ذلك في علاقة معقدة مع العلمانية في المنطقة، وقد عدها كثيرون فرضا أجنبيا و ليس تطورا طبيعيا لمجتمعاتهم. و تجلى التفاعل بين العلمانية والإسلام بشكل مختلف في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد خضعت تركيا في عهد مصطفى أتاتورك لفترة من فرض العلمنة على المجتمع التركي المسلم بشكل سريع و مضطرب، وقد شمل ذلك إلغاء الخلافة العثمانية و نفي الخليفة العثماني وأسرته خارج التاريخ ، وهذا كان من أهم نتائج الحرب العالمية الأولى التي فرضها العالم الغربي علينا في حينه( و كنت قد كتبت في سلسلة مقالات سابقة حول ذلك). و تلا ذلك إجراءات صارمة لسلخ الهوية الإسلامية عن المجتمع التركي، وتنفيذ القوانين العلمانية. الآن في عهد الرئيس أردوغان ماذا فعلت تركيا حتى نجحت بالتوفيق بين العلمانية والإسلام؟ من خلال حزبها الديمقراطي المحافظ حزب العدالة والتنمية؟ عندما سأل أحد المذيعين السيد الرئيس رجب طيب أردوغان على إحدى المحطات التلفزيونية هذا السؤال أجاب سيادته:" أجد صعوبة في فهم و تفسير العالم الإسلامي، والربط بين العلمانية و الإسلام! لقد قمنا بتأسيس حزبنا و بتعريف العلمانية، وعبرت عن ذلك عندما زرت مصر بعد تولي الرئيس مرسي الحكم. و تحدثت عن الإسلام و علاقته بالإرهاب؟ الأفراد لا يمكن أن يكونوا علمانيين، الدولة تكون علمانية وهذه نقطة مهمة. و العلمانية تعني التسامح مع المعتقدات كافة من قبل الدولة، والدولة تقف على مسافة واحدة تجاه كافة الأديان والمعتقدات، هذا ليس مخالفا للإسلام، ولكن هناك من يحاول تأويل ذلك! العلمانية هي فقط أن تضمن الدولة الحرية للمعتقدات، وأن تقف على المسافة نفسها من كافة الأديان والمعتقدات. إذا العلمانية ليست معادية للدين، و هي ليست ديانة بل مصطلح يضمن الحريات للأديان والمعتقدات توفر الأرضية الملائمة لممارسة الأديان كافة، وممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، حتى الملحد هذه حرية شخصية وحرية معتقدات، واعتبار العلمانية تسلط أو موقفا ضد المتدينين هذا اعتبار غير صحيح".
والعلمانية كما قال الجابري:" صارت عبأ على العالم العربي"، بينما الديمقراطية يجتمع عليها الديمقراطيون والعلمانيون وكذلك المتدينين المعتدلين أيضا، لكن العلمانية !
بينما صارت الديمقراطية منظومة قيم مفتوحة لاختيار الناس، أما فرض خيار مناقض لما يراه الجابري! الديمقراطية: يكون الخيار فيها للشعب و هي قادرة بشكل عقلاني على ضبط الأمور من الناحية البيروقراطية، من حيث التيسير والحكم الرشيد بالمعنى السياسي العام، وليس بمعنى السياسة الدستورية . و على سبيل المثال أيضا تونس قدمت أنموذجا لدراسة حالات مهمة بعد حصولها على الاستقلال تبنت دستورا علمانيا، وشهدت مناقشات مستمرة حول دور الإسلام في الحياة العامة. وهنا لابد من فهم أكثر دقة للعلمانية مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الثقافي للمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، ومن المرجح أن تبقى العلاقة بين العلمانية والإسلام في العالم الإسلامي معقدة و متنازعا عليها، و لا تزال المنطقة تتصارع مع إرث الاستعمار وعدم الاستقرار السياسي و التغيير الاجتماعي ، ولا يزال إيجاد توازن بين احترام الحرية الدينية و ضمان مجتمع عادل ومنصف يمثل تحديا رئيسيا للحوار والتفاهم، و قد يكون الأمر معقدا وحاسما للتنقل في هذه البيئة المعقدة . لذلك لابد من لغة للحوار، وضرورة الانخراط في وجهات نظر متنوعة ومتعددة بين من يدعمون العلمانية وبين من يدعون للحكم الإسلامي، ولكن في النهاية سيعتمد مستقبل" الشرق الأوسط" على الانفتاح وإيجاد سبل لاستيعاب المعتقدات والتطلعات المختلفة في إطار السلام والعدالة والكرامة الإنسانية، ولعل خير مثال التجربة النهضوية التركية و كلمة السر في نجاحها الحرية ونشر الوعي السياسي والاجتماعي لينعم الجميع بعدالة اجتماعية، وكلمة السر في التجربة الماليزية النهضوية كانت قائمة على تطبيق فلسفة مالك بن نبي في بناء ماليزيا، و كلمة سر النهضة في كوكب اليابان كانت قائمة على المثابرة والعزيمة وبذل قصارى الجهد في المجتمع الياباني لبنائه وازدهاره، و كلمة السر في نهوض المجتمع الألماني ثقافة الابتكار الراسخة مع التركيز على الجودة و الدقة. إذا لننهل من هذه التجارب بما يتناسب مع ثقافة مجتمعنا العربي بشكل عام والسوري بشكل خاص لبناء مجتمع واعي مزدهر ينعم فيه الجميع بعدالة اجتماعية. و هنا استحضر كلمة بديعة للمفكر الإسلامي علي الوردي:" في أغلب الدول الإسلامية سوف يصوت الناخبون بأغلبية لتطبيق الشريعة، لكنهم لن يترددوا في أن يهاجروا بلادهم إلى دول علمانية، تحكمها قوانين علمانية ".بمعنى عدم معاداة الدين، لكن! الوقوف على مسافة واحدة من الأديان جميعها.
يتبع …..
وسوم: العدد 1116