الأمن والأمان آثارهما وإيجابياتهما، المملكة العربية السعودية أنموذجًا
إنَّ الأمن والأمان موضوعان واسعان، وصدر عنهما مئات الكتب والدراسات، ولهما تعريفات كثيرة؛ فردية ومجتمعية، سياسية وعسكرية، اجتماعية واقتصادية، وثقافية، وفكرية، وعلمية، ودينية، وغيرها.
أما تعريف الأمن والأمان في اللغة: فهو الاستقرار والطمأنينة وعدم الخوف، والثقة وعدم الخيانة، ويقول عنهما ابن منظور في معجم لسان العرب: وقد أمنْتُ فأنا آمن، وأمنْتُ غيري من الأمن والأمان، والأمن ضد الخوف، والأمانة ضد الخيانة.
ومن يبحث في تاريخ وحضارات الأمم عبر أطوار التاريخ، يجد أنَّ الأمان والأمن من الركائز الأساسية لبناء أي قوة، أو سلطة، وكلما كان الأمن والأمان قويين وجيدين. كانت حياة الأسر والمجتمعات والإمارات والحكومات والإمبراطوريات جيدة، وإذا كانت ضعيفة وهشة تحولت أحوالُ الناس العامة والخاصة إلى حياة سلبية ومضطربة.
الدارس لأوضاع العرب قبل الإسلام يجد أنَّهم كانوا يمارسون الكثير من الأنشطة المتنوعة، إلَّا أنَّ عاملي الأمن والأمان غير مستقرين. وكانت القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية هي الآمرة الناهية في بلدانها، والأوضاع السياسية غير متحدة، بل الصراعات القبلية السائدة في كل مكان. وإن ظهرت بعض الدول في نواحي عديدة من جزيرة العرب، إلَّا إنَّ القبيلة والعشيرة بقيت الأقوى والمحرك السياسي والحضاري في كل مكان.
جاءت رسالةُ الإسلام، ونزل القرآنُ الكريمُ على الرسولِ محمد بن عبد الله (عليه الصلاة والسلام). وكان من أهداف الدين الإسلامي بناء أمةٍ إسلاميةٍ تحكم بشرع الله (عز وجل) وتبسط الأمن والأمان في كل مكان. والقرآن الكريم يشتمل على آيات كثيرة تذكر الأمان والأمن. قال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
وقال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ) [النمل:89].
وقال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّه لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112].
وقال تعالى: (وَقَالُوا إن نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:57].
وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت: 67].
وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 126].
وقال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أن نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم:35]. وأقسم سبحانه بمكة البلد الحرام، قال تعالى: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين:3].
وقال تعالى عن أهل مكة: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 4].
أما كتب السنة ففيها تفصيلات وشروحات كثيرة عن أنواع عديدة من الأمن والأمان. قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (من أصبح منكم آمنًا في سربه معافىً في بدنه عنده قوت يومه فقد حيزت له الدنيا) (رواه البخاري في: الأدب المفرد). وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يرشد أمته إلى كل عمل أو قول يقود إلى الأمن والأمان والاستقرار، ومما ذُكر عنه (عليه الصلاة والسلام) كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله، هلال رشد وخير). (رواه الترمذي).
من يطالع كتب الفقهاء الأوائل وأقوالهم، وما تحتوي عليه مصادر التراث العربي والإسلامي (الشرعية، واللغوية، والأدبية، والتاريخية والحضارية، وأعلام الرجال وطبقاتهم، وغيرها) من المصادر المبكرة والمتأخرة فسوف يجد فيها توثيقات مطولة ومتنوعة عن الأمن والأمان عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل هناك مدونات كثيرة عن تاريخ الأمن عند العرب والمسلمين في حواضرهم، ومدنهم، ومناطقهم، وقراهم، وكذلك صلاتهم مع غيرهم من بلدان وشعوب الأرض غير المسلمة.
في هذه المقالة أدون شيئًا من مسيرة الأمن والأمان في شبه الجزيرة العربية منذ فجر الإسلام إلى وقتنا الحاضر (1446هـ/2025م)، وأذكرها في البنود التالية:
1- اختار الله (عز وجل) جزيرة العرب وتحديدًا مكة المكرمة ثم المدينة المنورة حتى تكون منطلق الدعوة الإسلامية. والمصادر المخطوطة والمطبوعة تشتمل على آلاف الصفحات التي أرخت لأرض وسكان العرب قبل الإسلام، ثم نزول القرآن الكريم على الرسول محمد (عليه أفضل الصلاة والسلام)، وكيف بدأت ثم تطورت الدعوة في أرض الحجاز وبقية أجزاء الجزيرة العربية، ولم يأت القرن الهجري الأول، ويبدأ القرن الهجري الثاني إلَّا والدين الإسلامي انتشر في بلدان كثيرة من قارات آسيا، وإفريقيا، وأوروبا. وكانت رسالة الإسلام واضحة وتؤكد على توحيد العبادة لله (عز وجل) ثم نشر قيم ومبادئ الدين الإسلامي في كل مكان وصل إليه، ومن يدرس المجتمع العربي والإسلامي في صدر الإسلام يرى أنَّ حياة الناس تغيرت من الفوضى والاحتراب إلى مجتمعات يسودها الأمن والأمان والاستقرار، وتحولت طبيعة الإنسان العربي المسلم من شريعة الغاب إلى شخص مؤمن بالله، ويحمل رسالة الإسلام التي قام بتبليغها إلى خلقٍ كثيرٍ داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها.
2- كان عند المجتمع القبلي العربي في جزيرة العرب الكثير من الأنظمة والقوانين والشرائع الوضعية التي تنظم حياتهم قبل الإسلام من أجل توفير حياة آمنة لهم. وبعد ظهور الإسلام ونزول القرآن وانتشار سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الآفاق أصبح هناك قوانين إسلامية شرعية تطبق على الناس في شبه الجزيرة العربية، وعلى المجتمعات الأخرى الخارجية التي وصلت إليها دولة الإسلام. وحث الإسلام على كل عادة أو عرف أو تقليد جاهلي يتوافق مع الدين الإسلامي، أما ما عدا ذلك فهو مرفوض، وكان عند العرب العديد من الصفات الحميدة واستمرت في المجتمع العربي والإسلامي، ومنها حماية المظلوم، والالتزام ببعض المواثيق والعهود، وغيرها من النظم الجاهلية التي تحث على الوحدة والاستقرار ومساعدة المحتاج وغيرها.
3- قضيت أكثر من خمسة عقود أبحث وأقرأ في مصادر ومراجع التراث الإسلامي، ووجدت سكان الجزيرة العربية لم يكونوا على قلب رجل واحد أثناء نزول القرآن الكريم، لكن لم ينته عصر الخلفاء الراشدين إلَّا وأصبح الدين الإسلامي بجميع قوانينه وشرائعه السائدة معمول بها في دولة الإسلام وعاصمتها المدينة المنورة. وفي تلك الفترة كانت البلاد وأهلها يعيشون حياة آمنة وشبه مستقرة، مع أنَّها لم تخل من حروب وصراعات متعددة. والأجمل في ذلك أنَّ الكثير من سكان شبه الجزيرة حملوا راية الإسلام إلى خارج جزيرة العرب، وتمكنوا في بضعة عقود أنْ ينشروا الإسلام إلى شعوب كثيرة متنوعة في عقائدها، وثقافتها، ولغتها. بل إنَّ تلك الأمم كانت تعيش حياة قاسية من الاضطرابات والصراعات السياسية والعسكرية، وعندما وصل الإسلام إلى بلادهم على أيدي العرب بدأت أحوالهم تتحسن دينيًّا، وأمنيًّا، وتنمويًّا وحضاريًّا.
4- انتقلت عاصمة الدولة الإسلامية إلى العراق ثم الشام في منتصف القرن الهجري الأول، وقامت الخلافة الأموية، ثم ظهرت دول إسلامية عديدة في العراق، ومصر، وشرق العالم الإسلامي وغربه. وتحولت شبه الجزيرة العربية خلال العصر الإسلامي المبكر والوسيط (ق2ـــ ق10هـ/ق8ـــ ق16م) إلى جزء صغير من العالم الإسلامي، ولم تصبح صاحبة نفوذ وريادة سياسية وعسكرية، لكنها بقيت ومازالت مكة المكرمة والمدينة المنورة قبلة المسلمين. والسؤال: كيف كانت حياة سكان الجزيرة العربية أمنيًّا وحضاريًّا؟ الواضح أنَّها تحولت الحياة فيها إلى ضعف وصراعات قبلية شديدة، مع العلم أنَّها كانت تحت نفوذ الدولتين الأموية والعباسية حتى القرن (3هـ/9م)، وبعد ذلك ظهرت الكثير من الإمارات والقوى السياسية المحلية في أجزاء متفرقة من البلاد، ودخلت في حروب دامية خلفت الكثير من الضحايا البشرية والمادية. مع العلم أنَّ بعض تلك الإمارات وبخاصة في جنوب وشرق الجزيرة العربية مدت نفوذها على بلدان عديدة وبسطت حكمها وأمنها عليها عشرات وأحيانًا مئات السنين، والأمن والأمان بمفهومه الواسع لم يكن سائدًا ومنتشرًا في أرجاء البلاد. وإذا أخذنا الحجاز وبخاصة المدن المقدسة (مكة المكرمة، والمدينة المنورة) التي يأتي إليها الحجاج سنويًّا كنموذج لسردنا التاريخ، فقد كانت تعاني من الفوضى والصراعات الإقليمية والمحلية. والدول الإسلامية الكبيرة في العراق أو مصر وغيرهما كانت في حرب وتنافس شديدين من أجل مد نفوذها على الحجاز، وأيضًا الإمارات المحلية متورطة في تلك الصدامات الإقليمية، وكل تلك السياسات الداخلية والخارجية تعيش مواجهات عسكرية وسياسية مستمرة على أرض الحجاز. وآثار تلك الأحداث كان لها نتائج سلبية كبيرة على أمن الناس داخل الجزيرة العربية وخارجها.
5- اجتهدت في تقصي أوضاع الناس وأخبارهم في البوادي، والأرياف، وبعض الحواضر في أمكنة كثيرة من الجزيرة العربية فوجدت أنَّ القبائل عادت بقوة في حكم بلادها بشكل عنصري وتعصب قبلي مقيت، ودخلت في صراعات محلية، وصارت كل قبيلة أو عشيرة تعيش مستقلة عن غيرها، وأحيانًا تجتمع مع بعض القبائل في أحلاف ضد غيرها من القبائل المجاورة. وهذه العادة كانت سائدة بين الناس قبل الإسلام، ثم عادت بشكل كبير خلال القرون الإسلامية الوسيطة والحديثة؛ لأنَّه لا يوجد حكومة قوية تستطيع فرض سيطرتها على عموم البلاد. وجمعت خلال الأربعين سنة الماضية المتأخرة الكثير من الوثائق والاتفاقيات والقصص الشفهية، والأشعار الشعبية التي تبين فقدان الأمن والأمان في كثير من البلدان بما فيها الحواضر الكبيرة في أرض الحجاز. ولا ننكر أنَّ عموم سكان الجزيرة العربية مسلمون ويمارسون عباداتهم المختلفة، وبينهم من العلماء، والقضاة وغيرهم أعدادٌ كثيرة، لكن عدم وجود حياة إدارية وسياسية عامة وشاملة ومستقرة جعل الأمن مفقودًا، والاضطراب سائدًا في أنحاء البلاد.
6- جاء العصر الحديث، ومدت الدولة العثمانية نفوذها على الجزيرة العربية، ودخلت البلاد مرحلة صراعات وحروب أشد من ذي قبل. واستمرت قبائل الجزيرة في صراعاتها المحلية، بالإضافة إلى انخراطها في صدامات عسكرية مع الجيوش العثمانية، وفي الوقت نفسه ظهرت إمارات محلية لعبت أدوارًا سياسية متعددة في الحياة السياسية المحلية، ومنها الدولتان السعوديتان الأولى والثانية، وبعض الحكومات في اليمن وغيرها. أما الحجاز فكانت منذ القرن (3هـ/9م) حتى القرن (14هـ/20م) تحت إمارات الأشراف الذين يأتمرون بأمر غيرهم خارج شبه الجزيرة العربية وأحيانًا داخلها. وقد صدرت بعض الكتب والبحوث التي عكست صفحات كثيرة من التاريخ المحلي، ومازال هناك آلاف الوثائق غير المنشورة التي تشتمل على تفصيلات عن تاريخ وحضارة بلدان شبه الجزيرة العربية من القرن (10ـــ 14هـ/16ــــ20م)، وفي هذه المصادر المخطوطة أو المطبوعة مادة علمية جيدة تؤرخ لحياة البلاد والعباد إداريًّا وأمنيًّا. ومثل هذا الموضوع مازال جديدًا ومهمًا لمن رغب دراسته وتوثيق التاريخ الأمني الذي كان غالبًا ضعيفًا ومضطربًا.
7- دخلت الدول الأجنبية الاستعمارية في ميدان السيطرة على ديار العرب والمسلمين خلال العصر الحديث، ولم تسلم الكثير من بلدان الجزيرة العربية من هيمنة وشر هذا العدو الأجنبي الجديد. وجرت حروب عديدة داخل الجزيرة العربية، وكانت الدول الأجنبية، والعربية والإسلامية الخارجية تتصارع في مدن وموانئ وأجزاء متفرقة من بلاد العرب. أما السكان المحليون والجبهات الداخلية ففي حروب دائمة وغير متفقة، ولها أنشطة سياسية وعسكرية مع أو ضد القوى الخارجية.
8- كان القرن (14هـ/20م) مليئًا بالأحداث الجسام، فالأجزاء الشرقية من الجزيرة العربية دخلت تحت الاستعمار الغربي، وبلاد اليمن تعيش في فوضى عارمة داخلية، وسيطرة استعمارية خارجية. أما بقية البلاد فكانت تحكمها قوى محلية لها طموحات وتطلعات متنوعة. وفي نهاية العقد الثاني ظهر الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل وسيطر على مدينة الرياض، ثم واصل نفوذه العسكري والسياسي والإداري حتى جمع معظم أجزاء جزيرة العرب تحت مظلة دولته التي أطلق عليها اسم (المملكة العربية السعودية). ومسيرة توحيد البلاد أخذت من هذا القائد المبارك بضعة عقود، لكنه في نهاية المطاف استطاع أنَّ يؤسس دولة حديثة عصرية تحكم البلاد بشرع الله، وكان من أهم أهدافه توحيد البلاد، وبسط الأمن والأمان في ربوعها، وتحقق ذلك بفضل الله (عز وجل)، ثم بجهود هذا الإمام ورجال دولته الذين ناصروه حتى تحقق له ما أراد. وإذا تحدثنا عن حياة الأمن في هذه الدولة السعودية الحديث، فذلك موضوع كبير يُكتب في الكثير من المؤلفات والبحوث، لكنني أشير فقط إلى محاور رئيسية اتخذها حكام آل سعود في العصر الحديث والمعاصر، ولها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالتاريخ الأمني، وأسردها في البنود التالية:
أــ بذل الملك عبد العزيز ما في وسعه من أجل تطبيق شرع الله كما جاء في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) واطلعت على آلاف الخطابات والوثائق التي كتبت في زمن ذلك الحاكم، فكانت جميع أعماله وأقواله وسياساته وتطلعاته حكم البلاد وأهلها ضمن دستور وإطار الشريعة الإسلامية الصحيحة. وهذه السياسة كانت من الأمور الأساسية في نجاحه وانقياد الناس لحكمه، ثم الاجتهاد والتعاون بين الراعي والرعية على جمع الكلمة والسير في طريق البناء والتطوير لجميع مفاصل الحياة.
ب ــ كانت الأماكن المقدسة تعاني من فقدان الأمن، وكثرة الصراعات والتجاذبات. وبعد أنْ أصبحت ضمن دولة الإمام عبد العزيز اجتهد في توفير الأمن والاستقرار لقاصدي بيت الله من الحجاج، والمعتمرين، وأوجد الأنظمة والقوانين الشرعية الحديثة التي توفر الراحة لضيوف الرحمن، وتفرض الأمن، وتحارب الفوضى والانفلات الأمني. ومن يبحث عن الطرق والوسائل التي اتخذها الملك ورجال حكومته يجد أنَّها كانت واضحة وصارمة وتصب في خدمة الحرمين الشريفين وزواره من الداخل والخارج.
ج ــ رأى الإمام عبد العزيز أنَّه لا يمكن القضاء على الصراعات القبلية المنتشرة في كل مكان، وتوفير حياة آمنة ومستقرة إلا بتطوير إنسان هذه البلاد معرفيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا. ومن ثم أمر بتأسيس مؤسسات حكومية عصرية تقوم على تنوير وتطوير البلاد والعباد وجعل مكة المكرمة المدينة الحضارية التي تنطلق منها التنمية السعودية الحديثة. وكانت إدارات الأمن، والدفاع، والتعليم، والمال، والبلديات، والاتصالات، والثقافة والإعلام وغيرها من المؤسسات الجديدة التي أُنشئت في مكة ثم اتسعت أنشطتها ومسؤولياتها حتى شملت جميع مناطق المملكة العربية السعودية. لقد بحثت وقرأت وكتبت عن بدايات التنمية الحديثة في البلاد السعودية، فوجدت أنَّ خطط الملك عبد العزيز وجهوده في جعل انطلاقة التطويرات الحضارية الحديثة من الحجاز يدل على فكر ثاقب ورأي سديد؛ لأنَّ البلاد الحجازية متقدمة على غيرها في الجزيرة العربية تنمويًّا وحضاريًّا ومعرفيًّا وثقافيًّا وإداريًّا.
د ــ تُوفي الملك عبدالعزيز في بداية السبعينيات من القرن الهجري الماضي بعد تأسيس كيان كبير مترامي الأطراف، وتحول حياة الفرد من التقوقع والعنصرية والأنانية الفردية إلى إنسان يحمل هوية إسلامية وطنية لبلده الكبير (المملكة العربية السعودية)، وصارت جميع أجزاء البلاد تعيش في أمن وأمان ورخاء واستقرار، بعد أنَّ كان الناس يعيشون في خوف ورعب وجوع وبلاء. وقد سمعت عشرات القصص من بعض الآباء والأجداد الذين عاشوا خلال النصف الثاني من القرن (14هـ/20م)، وذكروا لي أنَّ الإنسان كان لا يأمن على نفسه وأهله وماله من اللصوص والمجرمين والمعتدين على أموال الناس وحرماتهم. كما اطلعت على الكثير من الوثائق خلال العقود الوسطى في القرن الماضي فإذا بمؤسسات الدولة الرسمية: المحاكم الشرعية، والإدارات الأمنية، والقطاعات الدعوية والتعليمية وغيرها تعمل ليلًا ونهارًا من أجل نشر الأمن والوعي والتوجيه الذي يقود إلى مجتمع متحضر ومؤمن بربه يعمل لخدمة الدين وتطوير الحياة الفردية والمجتمعية.
هـ ـــ جاء حكام البلاد بعد والدهم المؤسس (الملوك سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله، وسلمان) فاجتهدوا أيما اجتهاد في توطيد الحكم وتطوير البلاد على جميع الأصعدة العامة والخاصة، الرسمية والأهلية، الداخلية والخارجية. وإذا توقفنا مع عصر كل ملك نجدهم جميعًا لم يخرجوا عن خطط وسياسة الملك عبد العزيز الذي منَّ الله به على أرض الحرمين، وعلى معظم أجزاء الجزيرة العربية فحولها من حياة فقر وحرب وخوف وعدم استقرار إلى دولة عربية إسلامية آمنة عمَّ فضلُها وخيراتُها سكان البلاد الأصليين، وغيرهم من عرب ومسلمين في أرجاء الكرة الأرضية.
وــ إني عندما أكتب هذه السطور أتذكر ما قرأته أو سمعته أو عرفته من عام (1320هـ/1902م) إلى مطلع هذا القرن (15هـ/20م)، فإذا الذي حدث لإنسان هذه البلاد كأنه من عالم الخيال. نعم إنَّ الذي جرى خلال ثمانين عامًا تقريبًا أحدث تحولات وتطورات إيجابية تكتب تفصيلاتها في مئات الكتب والدراسات. كما استمر الرقي والازدهار لهذا الوطن وأهله حتى أصبحنا نراه في مصاف الدول المتقدمة حضاريًّا وتنمويًّا.
زـــ ليست حياة الأمن والأمان الصفة الوحيدة التي امتازت بها المملكة العربية السعودية، إنَّما هي جزئية واحدة من عشرات المناقب التي عرفها وعاشها إنسان هذه البلاد، ومازال هناك جوانب حضارية كثيرة جديرة بالاهتمام والتنويه عنها. وأقول: إنَّ على أرباب الفكر والقلم من العلماء، والأدباء، والمؤرخين، والشعراء، والمخططين وغيرهم مسؤوليات توثيق الصور الحقيقية التي مرت بها البلاد منذ كانت ممزقة وواهية حتى أصبحت كيانًا سياسيَّا وحضاريَّا عظيمًا له تاريخه وإسهاماته وحضوره في جميع اللقاءات والمحافل المحلية، والإقليمية، والعالمية، وهذا الواجب على المواطن الصالح الذي يخدم دينه وبلاده وأهله، كل حسب إمكاناته وقدراته وعمله وتخصصه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على الرسول الكريم محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم.
الاثنين (18/8/1446هـ الموافق 17/2/2025م).
************************************************************************
السلام عليكم ياأستاذنا وحبيبنا وشيخنا هذا مقال جديد أرجو نشره في موقع الرابطة المبارك . ولكم جزيل الشكر وأرسل لك أدناه صور فوتوغرافية إذا احتجت إرفاق واحدة منها مع المقال والسلام
وسوم: العدد 1116