حول أسس الصراع والأزمة الفلسطينية والوحدة الوطنية
يتفق الفلسطينيون بشكل عام هذه الأيام على أن القضية الفلسطينية تواجه خطرا وجوديا غير مسبوق، وأن القوى المناهضة للحق الفلسطيني قادرة على حسم الصراع بشكل نهائي لصالح الكيان الصهيوني، وأن مراهنات القيادات العربية والفلسطينية على فكرة التعايش مع الكيان الصهيوني، والتوصل إلى تسوية مقبولة أصبحت سرابا نرى وهجه من بعيد، لكننا لا نستطيع الوصول إليه أو إمساكه بيدنا، فكلما اقتربنا منه خطوة بدافع الوهم أنه قريب نجده يبتعد عنا أكثر وأكثر.
ومن المفيد، بل من الضروري أن نراجع تاريخ الصراع في المئة عام الأخيرة، لنرى بكل وضوح تقدم المشروع الصهيوني على حساب فلسطين وشعب فلسطين أولا، وعلى حساب شعوب المنطقة العربية وقواها الحية، التي حاولت وما زالت تحاول أن ترفض وجود هذا الكيان الفاشي. إذ يبدو أن هناك من لا يزال يراهن على إمكانية التعايش مع هذا الوجود السرطاني في المنطقة، معتقدا أن إمكانية علاجه بالأدوية ليصبح ورما غير خبيث، يزعج ولا يقتل، ولا ضير في عدم استئصاله حيث يمكن التكيف مع بقائه واستمراره.
فبعد أن كان الكيان مرفوضا بشكل رسمي من النظام العربي بكامله منذ النكبة الأولى عام 1948، مرورا بلاءات الخرطوم الثلاثة بعد حرب يونيو 1967، تراجع النظام العربي انطلاقا من مصر عام 1979 ثم فلسطين والأردن عامي 1993 و1994 وصولا إلى أنظمة التطبيع الأربعة عام 2020، وتجري الآن جهود كبيرة وراء الكواليس لاستئناف عمليات الاختراق للأنظمة العربية، التي ما زالت لم تطبع.
المجتمع الدولي لن يتدخل والدول الغربية لا تفهم لغة الاستعطاف والتذلل، ستتدخل إذا عرفت أن مصالحها ستتضرر، وأن شركاتها سترحل وأن بنوكها ستفلس، وأن القواعد العسكرية ستغلق
وأود أن أثبت هنا حقائق أثبتتها التجربة بما لا يقبل أي مجال للشك، وعلى أساسها يمكن أن نتصرف أو نقرر ما هي الخطوات التي من واجبنا اتخاذها لحماية الوجود الفلسطيني. وهذه الحقائق معروفة تماما للقاصي والداني، إلا أن هناك ثلة صغيرة تمسك بخناق المؤسسات الفلسطينية، ما زالت تكابر وتعتقد أنها قادرة على التوصل لمصالحة تاريخية مع الكيان، وجودا وفكرا وممارسة.
أول تلك الحقائق أن الحركة الصهيونية قامت أساسا على نفي وجود الشعب الفلسطيني وإقصائه وتدميره وتغييب وجوده، ولا يمكن أن تتوقف هذه الحركة عن برامجها وخططها الاستئصالية، إلا بإفناء أو طرد أو قتل الشعب الفلسطيني كشعب، ككيان مستقل يتمتع بحق تقرير المصير. قد تقبل أفرادا يقدمون لهذا الكيان الخدمات اليومية والأشغال اليدوية الصغيرة، لكن لا يمكن أن تقبل تقاسم الأرض والموارد والحقوق، لا في دولة واحدة ولا في دولتين، إلا بتغيير موازين القوى محليا وعربيا ودوليا، بحيث لا يكون أمام الكيان إلا الهزيمة والانهيار، أو الإذعان لشروط الطرف الفلسطيني، الذي تميل موازين القوى لصالحه. وهذا في الوقت الحاضر أمر مستبعد. فحسم الصراع لصالح فلسطين في الوقت الحاضر غير ممكن، لكن لا يعني هذا الاستسلام ورفع الراية البيضاء، لأن ذلك يعني الاندثار وانتصار الكيان الصهيوني بالضربة القاضية. إن الوهم الذي جلبته لنا مجموعة أوسلو الصغيرة في غياب مشورة الشعب الفلسطيني وقواه الحية، يرتطم الآن بصخرة التطرف الصهيوني وهو يكشف علنا عن خياراته الثلاثة التي أطلقها سموتريتش دون مواربة: «الرحيل أو الموت أو الاستعباد». إن ما يطرحه الكيان الاستيطاني الإحلالي العنصري لهؤلاء القابعين في مكاتبهم وأوهامهم لا شيء عدا المقصلة.
الحقيقية الثانية التي لا تقبل أي جدال، أن الكيان الصهيوني جزء لا يتجزأ من منظومة الدول الغربية الاستعمارية والكولونيالية. هم من أنشأ الكيان وساندوه وسلحوه ودربوه وسلبوا الأرض الفلسطينية وقدموها له، ثم أسبغوا عليه صفة الشرعية؟ كما أن هذه الدول تبادلت الأدوار تباعا وتعاقبا. أنشأته بريطانيا وساعدتها فرنسا في تسليحه وتدريبه، وانضمت لهما ألمانيا في تعزيز اقتصاده وتمويله، ثم تبوأت الولايات المتحدة الدور الريادي بعد حرب يونيو 1967 لتدمجه في خططها الاستراتيجية للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، وتستخدمه رأس حربة لخلق القلاقل والمشاكل والتقسيمات الطائفية والعرقية، والإطاحة بالأنظمة الوطنية وترتيب المنطقة بكاملها لخدمة دول الهيمنة. لقد مكنته تلك الدولة من التغول عسكريا على جميع الأنظمة العربية مجتمعة، فما كان للكيان من حسم جميع المواجهات العسكرية مع النظام العربي لصالحه، والاستثناءات نادرة، إلا بدعم أمريكي غربي شامل. لقد أثبتت حرب الإبادة في غزة التي استمرت 471 يوما، ولم تقفل فصولها بعد، أنها حرب الولايات المتحدة بكل تفاصيلها تسليحا وتمويلا وتكنولوجيا واستخباراتيا ودبلوماسيا. لولا فتح مصبات الدعم العسكري والذخائري والمالي، لانهار الكيان خلال أسبوعين أو ثلاثة، خاصة لو أن جبهات المساندة لغزة دخلت المعركة بكل ثقلها. ولم تكن بريطانيا وفرنسا وألمانيا بأقل حماسة من الولايات المتحدة، حتى لو صدرت منهم بعض التصريحات المخادعة حول قتل المدنيين. لقد دخلت هذه الدول جبهات القتال فعلا لا قولا، عندما أطلقت إيران صواريخها باتجاه الكيان، وعندما تصدت لعمليات الحوثيين في البحر الأحمر. إن من يراهن على أن الحل العادل والدائم والشامل سيأتي من الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية فهو واهم أو ساذج أو متآمر. لقد أثبتت هذه الدول للمرة الألف أن مواقفها محسومة مع الكيان ولا تعتبر الفلسطينيين والعرب أندادا للكيان، وأن الدم العربي لديها لا يحمل قيمة الدم الصهيوني. قد حان الوقت لتثبيت هذه القناعة، ويكفينا ترديد مقولة «نناشد المجتمع الدولي «للتدخل». المجتمع الدولي لن يتدخل والدول الغربية لا تفهم لغة الاستعطاف والتذلل. ستتدخل إذا عرفت أن مصالحها ستتضرر، وأن شركاتها سترحل وأن بنوكها ستفلس، وأن سفاراتها ستغلق وأن عقود التجارة والاستثمارات ستلغى، وأن القواعد العسكرية ستغلق.
الحقيقة الثالثة أن النظام العربي غير قادر على فرض تغييرات جذرية لصالح فلسطين تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، مترابطة وقابلة للحياة. وهذه الدول، أو في غالبيتها، ليست أصلا معنية بقيام تلك الدولة المستقلة، لأنها دول وظيفية تعيش على المساعدات الأمريكية، وتستقبل القواعد العسكرية وملتزمة باتفاقيات أمنية وعسكرية مع هذه الدول. إرادتها غير حرة وإمكانيتها لا تؤهلها للرفض، ستحاول أن تقنع أو تفاوض، ولكن في النهاية لا تستطيع أن تمنع القرارات الأمريكية إذا ما بدأت بتنفيذها. يمكنها أن تعطل المشروع الصهيوأمريكي، لو أنها تثق في شعوبها وتسمح لجماهيرها أن تفجر طوفانا بشريا ينزل إلى الشوارع ويحاصر السفارات ويخترق الحدود ويمد أياديه إلى إخوته الفلسطينيين.
الحقيقة الرابعة أن الوضع الفلسطيني لا يحتمل بوضعه الحالي مواجهة المخطط الإبادي الاجتثاثي التهجري في ظل الانقسام الخطير، الذي جاء مع اتفاقية أوسلو التي فرطت بوحدة الشعب الفلسطيني ووحدة أرضه ووحدة قضيته. وما زالت هذه المجموعة مصرة على الانقسام والتمسك باتفاقية العار في أوسلو. ألم يحن الوقت لإلغاء تلك الاتفاقية وسحب الاعتراف والتمسك بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة كما أٌقر ذلك المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 2017؟ والغريب أن هذه الفئة لا تريد إنهاء الانقسام وتتهم كل من يقوم بمبادرة لإنهاء الانقسام والعمل على إعادة بناء منظمة التحرير على أسس ديمقراطية حقيقية وانتخاب قيادة فلسطينية مخلصة لشعبها، بالعمل على إضعاف المنظمة وخلق بدائل لها وشق الساحة الفلسطينية. أي خطل أكثر من هذا؟
كل تلك الأفكار راودتني وأنا أتابع تلك الحملة المحمومة ضد محاولة نحو خمسمئة فلسطيني وفلسطينية من خيرة ما أنتج هذا الشعب من كفاءات وقدرات وتجارب، التأموا في الدوحة لمحاولة الضغط المعنوي والجماهيري، لتحقيق الوحدة الوطنية وإصلاح المنظمة والتمسك بالمشروع الوطني الفلسطيني، وتعزيز الصمود على أرضية مقاومة كل مشاريع التصفية. ولكن عندما تعرف السبب يبطل العجب. فهؤلاء الذين يشنون الحملة هم من المتمسكين بالتنسيق الأمني «المقدس» لعلهم يصبحون مؤهلين لرضى ترامب فيوكل إليهم مهمة إعمار غزة.
وسوم: العدد 1116