هجرة التهاميين والسرويين إلى مدن ومناطق أخرى في المملكة العربية السعودية خلال العصر الحديث (التأثير والتأثر)

أ. د. غيثان بن علي بن جريس

sfsgfg1119.png

إنَّ الهجرات البشرية موجودة من بداية الخليقة، ومازالت مستمرة حتى تقوم الساعة، ونقرأ في المصادر الكلاسيكية، والعربية والإسلامية القديمة والحديثة عن هجرات القبائل داخل شبه الجزيرة العربية من عصور ما قبل التاريخ، والتاريخ القديم، والإسلامي المبكر والوسيط والحديث. وفي هذا المقال لن أتحدث عن هجرات السرويين والتهاميين في العهد القديم، أو حتى العصور الإسلامية إلى العقود الأولى من القرن الهجري الماضي، فهذا موضوع واسع، وللأسف فهو غير مدروس أو موثق، ويستحق أن يصدر عنه عشرات الدراسات العلمية المطولة. وسوف أركز تدويني على العهد السعودي الحديث من عام (1340ـــ1446هـ/ 1921ــــ2025م)، ولا أدعي أنني سوف أكتب مدونة وافية شاملة، لكنني أسجل لمحات سريعة ومختصرة لعلها تفيد بعض الباحثات والباحثين، والمؤرخات والمؤرخين في ديار السروات وتهامة، الواقعة بين حواضر اليمن والحجاز الكبرى، الممتدة من جنوبي الطائف ومكة المكرمة إلى جازان ونجران. وأذكرها على النحو التالي:


1- إن البلاد المعنية في هذا المقال مناطق الباحة، وعسير، وجازان، ونجران (تهامة والسراة)، لها تاريخ وحضارة قديمة وحديثة، ومستوطنات بشرية من عصور ما قبل التاريخ إلى يومنا الحاضر، وجرى على أرضها الكثير من الأحداث السياسية، والعسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والعلمية والتعليمية والثقافية، والجغرافية، وغيرها. وإنسانها كان ومازال لاعبًا مهمًا في بلاده الأصلية، وفي مواطن أخرى عديدة داخل جزيرة العرب وخارجها. وإسهامات التهامي والسروي التاريخية والحضارية داخل وطنه وخارجه من الموضوعات الجديرة بالبحث والدراسة منذ فجر الإسلام إلى بداية قيام الحكومة السعودية الحديثة. وهناك تاريخ طويل ومتشعب خلال تلك القرون، والقبيلة هي صاحبة الحل والعقد في أرضها، ولا يوجد حكومة حقيقية تبسط سيطرتها ونفوذها على عموم السروات وتهامة. ومن أربعينيات القرن (14هـ/20م) بدأت مناطق السراة وتهامة تدخل تحت نفوذ الدولة السعودية الحديثة، ولم نصل إلى الخمسينيات من القرن نفسه إلَّا وبلدان غامد وزهران (الباحة)، وعسير، وجازان، ونجران صارت جزءًا من حكومة الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، وأصبحت الحكومة السعودية الثالثة (المملكة العربية السعودية) هي صاحبة الأمر والنهي في أرجاء الوطن السعودي الحديث. ولن نناقش التاريخ السياسي والعسكري. والمجالات الحضارية الأخرى التي تعيشها المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها إلى وقتنا الحاضر، فذلك ليس من أهداف هذه المقالة، ثم إنَّ الموضوع نفسه مكتوب وموثق في مئات الكتب، والبحوث العلمية، والرسائل الجامعية.


2- كانت تنقلات وهجرة التهاميين والسرويين داخل الجزيرة العربية وخارجها خلال العصر الإسلامي المبكر، والوسيط، والحديث حتى منتصف القرن (14هـ/20م) من الأحداث التاريخية التي أشارت إليها بعض المصادر المكتوبة، والقصص والروايات والأشعار الشفهية، لكن تلك الهجرات كانت متفاوتة في أوقاتها، وأعدادها، وأسبابها، وظروفها، ثم إنَّ الحياة السياسية والأمنية السائدة في تلك العصور كانت ضعيفة، والفوضى والفقر والجوع والأمراض والصراعات القبلية وصعوبة الحياة كانت جميعها من العوامل السلبية التي أثرت على الناس في حلهم وترحالهم، وفي هجرتهم وإقامتهم. وبعد أن دخلت أرض السراة وتهامة تحت حكم ابن سعود من عام (1340هـ/1921م)، بدأ فجر جديد، وحكم حديث يعمل ويجتهد على حل مشاكل البلاد والعباد، وتوفير حياة آمنة ومستقرة لجميع شرائح المجتمع.

3- ظهر الملك عبدالعزيز آل سعود فجمع شتات البلاد، ثم أنشأ مؤسسات حكومية وأهلية تنشر العدل، والأمن، والاستقرار بين الناس. وبذل مع رجاله ما في وسعهم لتطوير الأرض والإنسان، وفتح مجالات حضارية متعددة تقوم على جهود ونشاط المواطنين السعوديين، الذين يعملون لخدمة أنفسهم ووطنهم الكبير(المملكة العربية السعودية)، واطلعت على آلاف الوثائق والخطابات التي صدرت في عصر الملك عبدالعزيز (يرحمه الله)، فكانت تدعو إلى الوحدة، ونبذ الفرقة، ومحاربة التعصب والعنصرية المقيتة، والاجتهاد في تطبيق شرع الله القائم على كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، وفي إطار هذه السياسة الراشدة توحدت البلاد وأصبحت الأنظمة والقوانين الرسمية تُطبق وتُمارس من خلال المؤسسات الحكومية الرسمية. وفي الوقت نفسه بدأت خيرات الله من النفط وغيره تفيض في البلاد، وبالتالي تطورت وتحسنت حياة الأفراد، والأسر، وعموم المجتمع السعودي. ولم تعد بلاد السروات وتهامة ببواديها، وقراها، وعشائرها، وقبائلها منعزلة أو متقوقعة أو متصارعة متحاربة كما كانت في العهود السابقة.


4- كان السرويون والتهاميون قبل الحكم السعودي الحديث يسافرون ويهاجرون في بلدانهم من ناحية إلى أخرى لظروف اجتماعية، أو اقتصادية، أو حربية وأمنية، وغيرها. ومنهم من خرج إلى مناطق الحجاز أو اليمن، وسافر بعضهم خارج الجزيرة العربية لأسباب متفاوتة ومختلفة من شخص أو جماعة لأخرى. وكان البحث عن الرزق من أهم الأسباب التي تدفع الأفراد، أو الأسر، أو حتى القبائل للهجرة، وأحيانًا يكون هناك أكثر من سبب للتنقل والهجرة داخل البلاد وخارجها. والتقيت بأكثر من راوية في العقد الأخير من القرن (14هـ /20م) فذكروا لي أنَّ الكثير من الأفراد في تهامة والسراة تركوا بلادهم وهاجروا إلى أمكنة عديدة داخل الجزيرة العربية وخارجها، ومنهم أعداد ليست قليلة فقدوا حياتهم، ومنهم من ذهب إلى مكة فأقام بها، وبعضهم خرج إلى بلاد الشام، أو مصر، أو بلدان أخرى في قارتي آسيا وإفريقيا. وجمعت عشرات القصص من أولئك الرواة، ومعظم معلوماتهم عن حياة الناس في النصف الأول من القرن (14هـ/20م)، وبإذن الله تعالى سوف أراجع هذ الروايات وأخرجها في عمل مستقل.

ــــ5 أما الهجرة في عهد الدولة السعودية الحديثة، فقد تغيرت أمور كثيرة إلى الأحسن، فأصبح هناك حكومة رسمية تسود وتحكم البلاد والعباد، ثم أنشئت قطاعات وميادين حكومية وأهلية كثيرة، وتوفرت الأعمال والوظائف العسكرية والمدنية، وصار المواطن السعودي في تهامة والسراة أو غيرها يسافر من بلاده إلى مواطن أخرى داخل المملكة من أجل الحصول على وظيفة يقتات منها. واطلعت على آلاف الوثائق الرسمية خلال العقود الوسطى من القرن الهجري الماضي (1345-1385هـ /1926-1965م) فوجدت مئات الرجال من العسيريين، والنجرانيين، والجازانيين، والغامديين، والزهرانيين وغيرهم يعملون في عشرات الأقسام والإدارات والمؤسسات الحكومية في بلدن بالسروات وتهامة ، وفي مدن وحواضر عديدة بالمناطق الغربية، والشمالية، والوسطى، والشرقية. ووجدت ايضا أعدادًا أخرى يعملون في بعض المؤسسات الحكومية السعودية خارج البلاد مثل السفارات السعودية وغيرها. وهجرة أهل السراة وتهامة إلى داخل المملكة وخارجها، وانخراطهم في أعمال كثيرة خلال النصف الثاني من القرن الهجري الماضي من الموضوعات التي مازالت جديدة وتستحق الاهتمام، آمل أن نرى مؤرخين جادين يدرسون هذا المجال دراسة علمية جديدة ورصينة.
6- اتسعت قاعدة البناء والتطور في البلاد السعودية، وأنشئت الكثير من المدارس، والمعاهد، والكليات، والجامعات، والإدارات، والوزارات، والمؤسسات الحكومية والأهلية، والمدنية والعسكرية. وبالتالي صار الإنسان السعودي الذي يعيش في جازان، أو نجران، أو أبها، أو بيشة، أو الطائف يتنقل ويسافر ويعمل في أي مكان يريده في شمال المملكة، أو غربها، أو شرقها. والوضع نفسه يجري على أي سعودي (ذكر أو أنثى) في أي ناحية من أرض المملكة، بل تطور الإنسان السعودي حتى أصبح يسافر إلى أي مكان في العالم للدراسة، أو العلاج، أو السياحة، أو العمل، أو التجارة وغيرها. وبذلت الدولة جهودًا كبيرة جدًا في تنمية البلاد سياسيًّا، وعسكريًّا، وعمرانيًّا، وصحيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا، وتعليميًّا وإعلاميًّا وثقافيًّا. وطورت ميادين المواصلات (البرية، والجوية، والبحرية)، والاتصالات، وكذلك الاتصال والعلاقات مع بلدان العالم العربي والإسلامي والأجنبي.


7- عاصرت، وقرأت، وسافرت داخليًّا وخارجيًّا خلال الستين عامًا الأخيرة (1385- 1445هـ/ 1965-2024م)، وشاهدت حياة الهجرة التي كانت عند أهل تهامة والسراة حتى منتصف القرن (14هـ/20م) قد تبدلت تمامًا، حيث كانت في السابق صعبة وشاقة؛ لأنَّ ظروف الحياة قاسية في شتى مناحي الحياة، أما من ستينيات القرن نفسه إلى الآن (1446هـ/2025م) فالسرويون والتهاميون سافروا وهاجروا وتنقلوا في بلادهم وغيرها داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، وفي الوقت نفسه، تجدهم يترقون ويتطورون وتتحسن جميع أحوالهم المادية والمعنوية، والنفسية والجسدية، والسياسية، والأمنية، وفي جميع مجالات الحياة الحضارية. بل أصبحت الأسفار، أو الهجرة أو الانتقال من مكان لآخر يّعد من باب السياحة والترفيه والاستمتاع .


8- إنني أسافر من بلادي في منطقة عسير من تسعينيات القرن (14هـ/20م) إلى كل مدن وحواضر السراة وتهامة، وإلى جدة، ومكة المكرمة، والطائف، والمدينة المنورة، والرياض، والدمام، والظهران، والخبر، وبقيق، ورأس تنورة، والأحساء وغيرها وفي كل مرة ألتقي بالعشرات وأحيانًا بالمئات من السرويين والتهاميين الذين يعيشون ويعملون في هذه البلدان، بل بعضهم ولدوا هناك، وآباؤهم أو أجدادهم هاجروا من جنوب المملكة إلى تلك المدن والحواضر من ستينيات أو سبعينيات أو ثمانينيات القرن الهجري الماضي. وإذا زرت بعض المدارس، أو الجامعات، أو المؤسسات الحكومية والأهلية، أو الشركات والبنوك، والورش، والأسواق، والمصانع وغيرها وجدت التهاميين والسرويين يعملون في هذه الميادين الحضارية. وخلال العشر سنوات الأخيرة (1435-1445هـ/2014-2024م) اجتهدت في جمع إحصائيات عن الطالبات والطلاب السرويين والتهاميين الذين يدرسون في مدارس المناطق الغربية، والوسطى، والشرقية فوجدت أعدادهم عالية جدًا وتقدر بمئات الآلاف. ومثل هذا الموضوع يكتب عنه مئات البحوث والكتب والدراسات العلمية.


9- لم أزر حتى الآن مناطق القصيم، والجوف، وحائل، لكنني التقيت بالكثير من سكان تلك البلاد من مطلع هذا القرن (15هـ/20م) حتى الآن (1446هـ/2025م)، وتجولت أيضًا في أرجاء تهامة والسراة وعرفت وسمعت أن هناك أعدادًا كثيرة من مناطق جازان، ونجران، وعسير، والباحة يعملون ويعيشون في تلك الأوطان السعودية الشمالية والشمالية الغربية. وهاجر بعضهم إلى تلك البلدان من نهاية القرن الهجري الماضي، واشتغلوا في مؤسسات حكومية وأهلية كثيرة لفترات طويلة، ومنهم من عادوا إلى بلادهم في جنوب المملكة، وآخرون فضلوا الإقامة في تلك النواحي بشكل دائم.


10- إنَّ الحديث عن خروج أو هجرة السرويين والتهاميين من بلادهم الرئيسية إلى مناطق ومدن وحواضر وأرياف عديدة في المملكة العربية السعودية، من بداية عهد هذه الدولة الحديثة إلى الآن (1446هـ/2025م) موضوع لم يبحث إطلاقًا، وهو مجال كبير يكتب عنه عشرات الكتب والرسائل الجامعية، ومن يتخصص في هذا الميدان، ويدرس أيضًا صلات مناطق المملكة مع بلدان ومناطق تهامة والسراة خلال المئة سنة الأخيرة (1344- 1445هـ/1925- 2024م) فسوف يكتب لنا تاريخًا وحضارة حديثة ومعاصرة جديدة ، وغير موثقة في أي عمل علمي جاد، مع أن المصادر المكتوبة والمروية والمصورة متوفرة في أمكنة كثيرة، وليس هناك صعوبة لدراسة وتوثيق وتحليل ورصد مثل هذا التاريخ الحديث والمعاصر، وهذا العمل من واجبات الكليات، والأقسام الجامعية، وكذلك الباحثات والباحثين، والمؤرخات والمؤرخين في جنوب البلاد السعودية على وجه الخصوص، ثم بقية المؤسسة العلمية والأكاديمية في المملكة العربية السعودية بشكل عام.


11- إنَّ للتهاميين والسرويين تاريخ كبير من حيث التأثير أو التأثر في الأوطان والبلدان والمدن والمناطق التي هاجروا إليها، وفي الفقرات الآتية أوثق لمحات من هذا الحراك الحضاري خلال المئة سنة الأخيرة، وأوجز ذلك في نقاط عديدة:


​أ- في أثناء نشأة وتوحيد البلاد السعودية الحديثة كان هناك صلات بين الملك عبدالعزيز آل سعود وبعض الأعيان والشيوخ في السروات وتهامة، ومن خلالها جرى التعاون بين الطرفين، وامتد نفوذ الإمام عبدالعزيز إلى مناطق عسير، والباحة، وجازان، ونجران. وكان في البداية بعض الصراعات والمقاومة من بعض القبائل، وفي النهاية صارت عموم الديار التهامية والسروية جزء من كيان المملكة العربية السعودية، وبالتالي إلتحق الكثير من السرويين والتهاميين بالوظائف الأمنية والعسكرية وتدرجوا وتزايدوا في هذه الميادين خلال النصف الثاني من القرن (14هـ/20م)، وهذا القرن (15هـ/20-21م) حتى صاروا يشكلون أعدادًا كثيرة في وزارات الدفاع، والداخلية، والحرس الوطني. وصار منهم أصحاب رتب عالية، وقادة ومسؤولين كبارًا في أرجاء البلاد. وإذا نظرنا إلى أعداد الطلاب التهاميين والسرويين في الكليات العسكرية الدفاعية (البرية، والجوية، والبحرية) والأمنية في الرياض، وجدة، والمنطقة الشرقية من ثمانينيات القرن (14هـ/20م) إلى وقتنا الحاضر، فإن أعدادهم عالية جدًا في هذه المؤسسات التعليمية، وعند تخرجهم توزعوا في أنحاء الوطن، وكانوا ومازالوا لهم تاريخ وتراث وتأثيرات عامة وخاصة، رسمية وأهلية، فردية ومجتمعية.


​ب - بعد تأسيس الحكومة للمديريات (الإدارات) الرسمية في مكة المكرمة في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الهجري الماضي، وأنشئت ثم تطورت الأجهزة الإدارية والمالية حتى أصبحت وزارات عامة تسير حياة الناس عمليًّا ووظيفيًّا، وقد نشطت هجرة الكثير من الرجال بحثًا عن وظائف في هذه المؤسسات الحكومية تحت مظلة الدولة العصرية (المملكة العربية السعودية). ونجد النصف الثاني من القرن الماضي كان يعج بأسفار السرويين والتهاميين الذين تركوا بلادهم والتحقوا بالكثير من الوظائف المدنية في مناطق جنوب المملكة أو غيرها من المناطق السعودية. وشاهدت في تسعينيات القرن الماضي هجرة الكثير من الرجال الشباب في منطقة عسير وما حولها إلى المدن السعودية الكبيرة في المناطق الوسطى، والغربية، والشمالية، والشرقية، وتوظفوا في مئات الإدارات والأقسام المدنية. وكان منهم الكثير من الأفراد الذين التحقوا بمحطة سكة الحديد، وشركة ارامكو في الدمام والظهران ثم تدرجوا في أعمالهم حتى صاروا من المسؤولين الكبار والرئيسين في هذين القطاعين. وإن درسنا إحصائية موظفي الوزارات المدنية والخدماتية في الرياض وجدنًا أعداد أهل تهامة والسراة كثيرة جدًا في مقر الوزارات نفسها، أو في فروعها وإدارتها وأقسامهم المنتشرة في أنحاء المملكة العربية السعودية. ومع التطور الإداري والمالي والتنموي خلال هذا القرن (15هـ/20ـــ21م)، حدث لسكان المملكة العربية السعودية، بما فيهم السرويين والتهاميين تنقلات وأسفار وهجرات واسعة بحثًا عن طلب الرزق، وتطوير النفس وظيفيًّا، وماليًّا، وعمليًّا.

​ج ـــ إنَّ الجانب العلمي والتعليمي ذو أثر وتأثير كبير على حياة الناس، وقد وصل التعليم النظامي الحديث إلى جنوب المملكة العربية السعودية في وقت مبكر، وبدأ الناس (ذكورًا وإناثًا) يتعلمون ويترقون في سلم العلم والمعرفة. وبعد الانتهاء من مراحل تعليمهم العام بدأوا الهجرة من بلادهم بحثًا عن الوظيفة، وكانت هجرتهم في القرن الهجري الماضي إلى مناطق الرياض، والشرقية، والغربية لتوفر المجالات والفرصة أمامهم. ومنهم من توظف في قطاعات مدينة أو عسكرية، وشريحة أخرى فضلوا الدراسة الجامعية أو الالتحاق ببعض الكليات والمعاهد العسكرية، وعند تخرج الجميع توظفوا في إدارات ومجالات حكومية وأهلية عديدة بعضها في الحواضر والمدن الرئيسية، ومنهم أعدادٌ كثيرة جدًا التحقوا بالوظائف التعليمية في المدارس الحكومية، وهناك نسبة قليلة سافروا إلى خارج المملكة لاستكمال دراساتهم العلمية العالية، وعند عودتهم عملوا في الإدارات والوزارات والجامعات الكبيرة. وجرى خلال هذا القرن تطورٌ هائلٌ في قطاع التعليم العام والعالي، وكان لأهل الجنوب السعودي (عسير، والباحة، وجازان، ونجران) بصماتهم وجهودهم الإيجابية الكبيرة داخل مناطقهم الرئيسية، وفي مناطق المملكة الأخرى. بل منهم من له تأثيرات وأنشطة وأعمال جليلة في بعض مؤسسات الدولة الخارجية السياسية، والدبلوماسية، والعسكرية، والأمنية، والإدارية، والمالية، والتعليمية.


​د ـــ نتج عن بدايات ثم تطور المجال العلمي والتعليمي في المملكة بروز الكثير من بنات وأبناء أهل تهامة والسراة في المجالات الثقافية، والإعلامية، والرياضية، والتقنية، والصحية والطبية. وهذه الميادين كانت قليلة ومحدودة خلال العقود الوسطى من القرن (14هـ/20م)، لكن بعد نشأة المدارس ومؤسسات التعليم العام، ثم ظهور الجامعات وتكاثرها في البلاد من نهاية القرن الهجري الماضي إلى الآن (1446هـ/2025م) حدث تقدم وازدهار في هذه القطاعات، وعادت آثارها التنموية الجيدة على البلاد والعباد. وإذا حصرنا حديثنا على السرويين والتهاميين الذين ساهموا وتألقوا في هذه المجالات داخل مناطقهم ومدنهم وقراهم وأريافهم، أو الذين استقروا في مواطن عديدة داخل المملكة وأحيانًا خارجها فسنجد أعدادهم في مئات الآلاف (ذكورًا وإناثًا)، وهذا الموضوع حسب علمي غير موثق في كتب أو بحوث علمية عميقة ورصينة.

هـ ـــ أما الحياة الاقتصادية وبخاصة المجال التجاري، والزراعي، والصناعي والحرفي. فكل هذه الجوانب كانت محدودة وضيقة النطاق خلال القرن الهجري الماضي، ثم بدأت في التطور والتوسع في أثناء هذا القرن (15هـ/20ـــ25م)، والسعوديون جميعهم عاشوا هذه التحولات الحضارية الكبيرة. ونجد بعض الأفراد السرويين والتهاميين تركوا أوطانهم في النصف الثاني من القرن الماضي، وذهبوا إلى المدن الكبيرة في المملكة وعملوا في مجالات تجارية عديدة، وتطور بعضهم وبرزوا حتى صاروا من كبار التجار في المملكة، ومازال بعضهم أو أبناؤهم يزاولون تجاراتهم الواسعة داخل المملكة وخارجها، ونرى خلال هذا القرن (1410ـــ1446هـ/1990ــــ2025م) اتساع المجال التجاري والصناعي، وتبذل الدولة جهودًا كبيرة في دعم وتشجيع هذين القطاعين. ومن خلال المعاصرة والسير في مناكب البلاد رأيت آلاف التهاميين والسرويين (ذكورًا وإناثًا) يعملون في المجالين التجاري والصناعي داخل مناطقهم، وفي حواضر ومدن أخرى كثيرة في المملكة العربية السعودية، ومنهم تجار أصحاب أموال كثيرة، وليسوا قليلًا، أما الأعداد الكبيرة فهم موظفون في قطاعات خاصة (شركات، ومؤسسات، وإدارات، وأقسام وغيرها)، وما من شك أنَّ هذا الجانب الحضاري له سلبياته وإيجابياته، وأهل السروات وتهامة جزء صغير من المجتمع السعودي الكبير الذي يشتمل على آلاف الأسواق، والمصانع، والتجارات المتعددة في أهدافها، وأنواعها، ومجالاتها، وكوادرها البشرية الفنية والتقنية والحرفية، وفي رؤوس أموالها، أو أوضاعها الجغرافية والسكانية وغير ذلك.


و ـــ إنَّ الحياة الاجتماعية من أوسع الأبواب التي حدث فيها تداخل وتأثيرات. فأهل السراة وتهامة لهم تاريخ اجتماعي متنوع ومتشعب من تركيبة السكان المجتمعية والأسرية، إلى عادات وتقاليد في البناء والعمارة، واللباس والزينة، والطعام والشراب، والفنون الشعبية والألعاب الرياضية، والصلات بين أفراد الأسرة، أو القرية، أو القبيلة، وأحوال المرأة وعلاقاتها بمجتمعها ودورها فيه، وتقاليد الناس في الزواج، والأعياد، والمناسبات الاجتماعية المختلفة. وجميع الذين هاجروا من أوطانهم إلى أمكنة أخرى حملوا معهم تاريخهم الاجتماعي، وبقوا على تواصل مع أهلهم وبني جلدتهم في ديارهم، وكذلك يتواصلون مع قومهم الذين من قبائلهم، أو مدنهم، أو قراهم، أو بواديهم وأريافهم في مقر إقامتهم الجديدة، وزرت مدن الرياض، والدمام، ورأس تنورة، والطائف، ومكة المكرمة، وجدة، والمدينة المنورة في التسعينيات من القرن الهجري الماضي، وحضرت مناسبات اجتماعية عديدة، ورأيت كل فئة من السرويين والتهاميين في أماكن سكنهم واجتماعاتهم في لقاءات واتصالات مستمرة مع رفقائهم الذين من جماعتهم أو قبيلتهم أو من مناطق جنوب المملكة، وفي الوقت نفسه يلتقون بغيرهم من شرائح المجتمع السعودي في المساجد، وأماكن العمل. وشاهدت أنَّ التواصل مع شرائح المجتمع والقبائل البعيدة كانت قليلة ومحدودة حتى نهاية القرن الماضي في عموم السراة وتهامة، وفي أرجاء الوطن. ومع مطلع هذا القرن (15هـ/ 20م) بدأت الاتصالات الاجتماعية تزيد وتتوسع في الصداقات، والمقابلات، والمصاهرة حتى وصلت درجة جيدة جدًا في بلدان جنوب المملكة خصوصًا، ومناطق المملكة عمومًا. وهناك عوامل كثيرة ساعدت في هذا الانفتاح والتوسع الاجتماعي الحضاري، ومنها تطور التعليم العام والعالي وانتشاره في كل مكان، وكذلك المناشط والوسائل الثقافية والإعلامية كالراديو، والتلفاز، والجرائد والمجلات، والندوات والمحاضرات، وخطب الجمعة. وأيضًا سهولة المواصلات وتطورها، ووسائل الاتصال والتقنية الحديثة (الإنترنت) وما نتج عن ذلك من تأثير وتأثر في أرجاء الكرة الأرضية. وكل هذه المؤثرات وغيرها من تطورات مادية ومعنوية أثرت على الفرد والأسرة التهامية والسروية التي تعيش في أي ناحية من مناطق المملكة من حيث الاحتكاك أو التواصل أو الترابط، فلم تعد متقوقعة على نفسها؛ بل تواصلت مع غيرها من الجيران في الحي الواحد، أو في مناسبات الأفراح أو الأتراح، وحدث الكثير من التأثيرات في اللهجات وتقليد بعض الأعراف والعادات. وأذكر في تسعينيات القرن الماضي أنني زرت بعض الأقارب في الرياض والدمام وكان لهم جيران من قبائل ومناطق أخرى في المملكة، وأحيانًا يتواصلون مع بعضهم لكن بشكل محدود جدًا. ثم زرت أقارب آخرين وبعض أفراد قبائلنا في المدينة المنورة، وجدة، ومكة المكرمة، والخرج خلال الثلاثينيات من القرن الحالي فوجدت الصلات بينهم وبين الكثير من جيرانهم أقوى وأكثر تقاربًا وتداخلًا حتى أنك ترى الشمري أو العنزي أو العطوي قد تزوج امرأة عسيرية، أو شهرانية، أو قحطانية، أو نجرانية، أو جازانية، والعكس أيضًا حدث. ومثل هذا التقارب من النادر أن نجده في مطلع هذا القرن، أو القرن الماضي. ومن يدرس تاريخ التأثير والتأثر بين الناس في بلاد السراة وتهام، أو بين التهاميين والسرويين وغيرهم في مناطق أخرى من المملكة خلال مئة عام (1344-1445هـ/1925-2024م) فإنه سوف يجد الكثير من التفصيلات المتباينة، والظروف التي أثرت على الناس أيام الانعزال والتقوقع في الماضي إلى الانفتاح واتساع العلاقات في مجالات حضارية كثيرة خلال الثلاثين سنة الأخيرة (1415ــــ 1445هـ/1995ــــ 2024م). ومثل هذا المحور جدير أن يدرس ويتم بحثه وتوثيقه من قبل أقسام التاريخ والمؤرخين المتخصصين.


ز ــ إنَّ الحياة المعاصرة تغيرت كثيرًا، فالتقارب والتواصل في كثير من أمور الحياة الاجتماعية، والمعرفية، والاقتصادية، والسياحية، والحضارية وصل إلى جميع شرائح المجتمع السعودي. وأصبح الإنسان الذي يخرج من أي ناحية في تهامة والسراة لا يهاجر ويعاني صعوبات الحياة التي عاصرها الآباء والأجداد، بل أصبح السفر من مكان إلى آخر داخل البلاد أو خارجها يعتبر من السياحة والترويح والترفيه. ونجد في رؤية (2030) للمملكة العربية السعودية فتح مجال السياحة لكل الجنسيات والفئات البشرية، بل إن السروي والتهامي، أو السعودي عمومًا يستطيع أن يطلع أو يسافر أو يتواصل مع أي مجال من مجالات الحياة داخل المملكة أو خارجها. ولا وجه للمقارنة بين تاريخ الهجرة أو السفر قديمًا وحديثًا، لكن مثل هذا الموضوع المقارن جدير أن يدرس من المتخصصين ومراكز البحوث العلمية في جامعاتنا المحلية. وصلى الله وسلم على رسول الله.

وسوم: العدد 1119