الوهابية العلمانية
أتحفني أخ حبيب مساء أمس مقالا عن "المفاهيم المؤسسة للعقل العربي"
المفهوم السادس الخلافة..
وشجعني الأخ الحبيب على قراءة المقال..
أنا لو أردت أن أبحث عن المفاهيم المؤسسة للعقل العربي، لكنت سأرجع إلى البادية والصحراء ابتداء إلى الأرض المبسوطة، والرمال المتحركة، والسماء الصافية. إلى لفظة البادية التي تجعل كل شيء باديا وواضحا
ثم سأرجع بكل تأكيد إلى الخطاب القرآني، والحجاج القرآني، والأمثال القرآنية..
كنت سأنظر إلى العقل في مسيرة تاريخية ممتدة وليس في لحظة اختناق مر بها مجتمع تكالبت عليه عوامل السحق والهزيمة وتحكمت به آليات التدمير
قرأت المقال لأجد الذي يتطاول على العقل العربي متابعا سلفا له خلا، يخبط خبط عشواء لا علم ولا فكر ولا نظر..
ويغرق في الحديث عن "الوهابية" كمثل السوء وأمثالها في تصيد أفكار وتلصيق قطع بزل على طريقة من تلصيق المتناقضات..
ويتكئ صاحب المقال، على ما يسميه "الوهابية" في نقد عقل عربي كانت منه حضارات بابل وآشور والفينيقيين والكنعانيين والآراميين وصناع الحرف وبناة سد مأرب ثم حضارة أدهشت وأبهرت على مدى سبعة قرون..
هل فعلا يمكن أن تكون الحقبة "الوهابية" شاهدا على العقل العربي، وأنا هنا لا أريد أن أدخل معركة مع أحد، ولست في صدد أن أدين وأمدح. ولكن ماذا تشكل الحقبة الوهابية في امتدادها في الزمكان لتكون شاهدا على عقل عمره الحضاري عشرة آلاف عام، حضارة موثقة مكتوبة، هي الأقدم في العالم حتى اليوم.
دائما في دراسة الظواهر الفكرية في بعدها التكويني، لا يمكن أن نستشهد بالظواهر التي تفرضها "القوة - البور" وها هي اليوم العربية السعودية تطوي أعلاما وأرجو أن توفق لتأرز إلى ظل عقل عربي حقيقي كالذي بناه الإمام الشافعي أو ساس به العالمَ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور..
مرة أخرى لا أريد أن أسيء إلى الوهابية والوهابيين، ولكنني أرى بعض العلمانيين في عالمنا يتقمصون القميص الوهابي في حرفيته، وفي انسداد أفقه، وفي انغماسهم في بئر ولدوا فيه ولم يحاولوا الخروج منه قط… ربما تكون العلمانية الوهاببة، أو الوهابية العلمانية، هي أسوأ مفرزات العقل العربي، إذا صح أن أفكار هؤلاء القوم، هي أفكار لمفكرين عرب ليس فقط في ثقافاتهم بل وفي جيناتهم أيضا…!!
ليتهم عادوا إلى الفارسي ابن المقفع فتعلموا منه كيف تقٌوم العقول
وإليكم..
ما روت كتب التاريخ والأدب..
أقبل ابن المقفع على جلسائه وكانوا من العرب الخلص يوما فسأل : أي الأمم أعقل ؟ قالوا : فظننا أنه يريد الفرس ، فقلنا : فارس أعقل الأمم ، نقصد مقاربته ، ونتوخى مصانعته.
فقال : كلا، ليس ذلك لها ولا فيها، هم قوم علموا فتعلموا، ومثّل لهم فامتثلوا واقتدوا ، وبدئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه ، ليس لهم استنباط ولا استخراج.
فقلنا له : الروم. فقال : ليس ذلك عندها ، بل لهم أبدانٌ وثيقة وهم أصحاب بناء وهندسة، لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما.
قلنا : فالصين. قال : أصحاب أثاثٍ وصنعة ، لا فكر لها ولا روية.
قلنا : فالترك. قال: سباع للهراش. يعني مقاتلين شجعان وأصحاب بأس وقوة .
قلنا : فالهند. قال : أصحاب وهم ومخرقة وشعوذة وحيلة.
قلنا : فالزنج ، قال : بهائم هاملة. وهذه عنصرية مفرطة .
فرددنا الأمر إليه.
قال : العرب أوفر الأمم عقلا. يقول الراوي: فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منا، وامتقع لونه ، ثم قال : كأنكم تظنون فيَّ مقاربتكم ، فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب .
ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك ، لأخرج من مظنة المداراة ، وتوهم المصانعة.
إن العرب ليس لها أولٌ تؤمه، ولا كتابٌ يدلها، أهل بلد قفر ، ووحشةٍ من الإنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله؛ وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض فوسموا كل شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير .
ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعياً وصيفيا ً، وقيظياً وشتويا ً؛ ثم علموا أن شربهم من السماء ، فوضعوا لذلك الأنواء ؛ وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السنة ؛ واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض ، فجعلوا نجوم السماء أدلةً على أطراف الأرض وأقطارها ، فسلكوا بها البلاد ؛ وجعلوا بينهم شيئاً ينتهون به عن المنكر ، ويرغبهم في الجميل، ويتجنون به على الدناءة ويحضهم على المكارم ؛ حتى إن الرجل منهم وهو في فجٍ من الأرض يصف المكارم فما يبقى من نعتها شيئاً ، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصر ؛ ليس لهم كلام إلا وهم يحاضون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد ، كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ، ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون ، بل نحائز مؤدبة ، وعقولٌ عارفة فلذلك قلت لكم : إنهم أعقل الأمم ، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم .
انتهى كلام ابن المقفع ...
وقال زهير : ولما علم الله ذلك منهم جعلهم حملة كتابه، والشهود على خلقه . فأرسل فيهم رسولا من أنفُسهم ومن أنفَسهم ، فعلمهم الكتاب والحكمة . وكان فضل الله عليهم عظيما .
ولئن دالت دولتهم يوما فلا شك أن بعد اليوم غدا.
وسوم: العدد 1120