تسريباتهم وتسريباتنا!
تسريباتهم وتسريباتنا!
عبد الرحمن يوسف القرضاوي
تتوالى التسريبات من داخل المكاتب المحصنة -أو التي كنا نظنها محصنة- تلك المكاتب التي يفترض أن تحتفظ الدولة فيها بأدق أسرار أمننا القومي.
تتوالى التسريبات كاشفة عن ترهل في "كرش" هذه الدولة، و"ارتخاء" في عضلاتها، و"ضمور" في عقلها.
الدولة التي تتظاهر بالقوة وهي على أجهزة التنفس الصناعي، تستقوي على أضعف الناس بينما هي "ملطشة" أجهزة التخابر.
منذ أيام كتبت الباحثة المجتهدة ا.هدى أبوزيد مقالتها الأسبوعية في موقع مصر العربية عن موضوع التسريبات بعنوان "وقفة واجبة مع التسريبات"، وقد أجرت مقارنة شائقة بين تسريبات النشطاء التي صَدَّعنا بها إعلام الانقلاب، وتسريبات قيادات الدولة.
وبما أنني كنت أحد الذين سُرِّبَتْ بعض مكالماتهم فسوف أعرض ما كتبته ا.هدى باختصار، وسوف أعدل قليلاً في صياغات المقالة الأصلية للتيسير، لذلك سيشار فيما يلي لتسريبات الناشطين بـ"تسريباتنا"، وتسريبات المسؤولين بـ"تسريباتهم".
تقول هدى أبو زيد في مقالتها :
(تمت التسجيلات المُسَرَّبَة بنوعيها دون علم المتحدثين فيها في أغلب الظن، وهنا ينتهي التشابه، وتظهر اختلافات جوهرية بين النوعين :
* "تسريباتهم" تمت في إطار عمل أصحابها وعن عملهم وفي مكان عملهم، وهو عمل عام، وهم في مواقع مسؤولية، ومسؤولية كبيرة، أي إن التسجيلات ليست شخصية، بينما "تسريباتنا" كانت في إطار مكالمات شخصية بين أصدقاء وليس زملاء عمل، حتى وإن تطرقت لشؤون عامة أحياناً، وبذلك يعتبر تسجيلها ونشرها تعدياً سافراً على حق الخصوصية الشخصية الذي يكفله الدستور المصري.
* "تسريباتهم" لا يتطلب تسجيلها جهة رسمية، فهي مسجلة من مكتب ويمكن لأي أفراد وضع أجهزة تنصت فيه في غفلة من أصحابه، (وإن كان ذلك يبعث على قلق بشأن كفاءة النظام المصري في تأمين مكاتبه، خاصة لمدير مكتب من كان يوماً رئيس المخابرات)، بينما "تسريباتنا" مكالمات هاتفية يظهر فيها صوت الطرفين مما يشير أنها تمت بواسطة شركات الاتصال، وفي هذا مخالفة صريحة لحق المستخدم، وبأوامر الجهات الرسمية حسب تصريحات الشركات.
* "تسريباتهم" تم عرضها في قنوات تبث من خارج مصر ويصعب ملاحقتها قانونياً، أما "تسريباتنا" فتم بثها من مصر ومع ذلك لم يتم ملاحقة القائمين ببثها قانونياً حتى بالرغم من وجود شكاوى رسمية ضدهم، مما يشير أن الجهات الرسمية توافق على عرضها، بل وقد تكون هي التي أمدتهم بها وإلا فكيف حصلوا عليها؟
* "تسريباتنا" لمن يسمعها بموضوعية، محتواها ليس فيه أي معلومات حقيقية ولا يترتب عليها أي أثر عام، مجرد فقاعات هواء، ولا دلالة لها دون التوابل التي كان يضعها مقدم البرنامج حولها – متضمنة إهانات يحاسب عليها القانون – ودون تحيز البعض ضد الناشطين، وتحميل الثورة وثوارها كل ما تلاها، والرغبة في جعلهم متآمرين مغرضين حتى يسهل صب كل غضب تلك السنين عليهم.
أما "تسريباتهم" فهي تسرد وقائع فساد محددة، لا مجال لإنكارها، وفيها إدانة واضحة لهؤلاء المسؤولين.
الواقع أن "تسريباتنا" تهدف إلى تشويه صورة أفراد الناشطين، وليس لكشف حقائق، بينما "تسريباتهم" تفضح مخالفات من مسؤولين في موقع مسؤوليتهم وفي تأدية عملهم.
* "تسريباتنا" تعرضت للحذف والقص واللصق مما قد يؤدي إلى تحريف المعنى، بينما "تسريباتهم" لا حذف في داخلها.
ويظهر هذا من خلال أصوات الخلفية ومن خلال نبرة الصوت، فإذا تغيرت نغمة ونبرة صوت المتحدث فجأة اعرف أنه تم القص في أثناء الكلام، وهو ملحوظ في بعض تسريبات الناشطين، بينما في "تسريباتهم" تسمع المسؤولين في الخلفية أحياناً تلاوة قرآن أو صوت نشرة أخبار لا انقطاع فيها.
* "تسريباتنا" لأفراد ليسوا في موقع سلطة رسمية وكلامهم غير رسمي، بينما "تسريباتهم" لأفراد في مناصب رسمية، وكلامهم يشكل طريقة إدارة الدولة وإذا صحت التسريبات فهي إدارة فاسدة.
إن نشر "تسريباتنا" أمر مخالف للأخلاقيات وليس فقط القانون، وتجاهلها واجب أخلاقي، ولا تبعية لما تحمله.
أما نشر "تسريباتهم" وهم مسؤولون في إطار قيامهم بمهام مسؤوليتهم، وكشف التسجيلات لفساد يحتاج صفحات لحصره، فهو أمر يستدعي وقفة واجبة إذا أردنا حقاً إصلاح مصر من كل ما علق بها من فساد على مر سنوات استبداد.
يجب المطالبة بإثبات صحة تلك التسجيلات للمسؤولين، وإذا ثبتت، يجب معاقبة وإزاحة من ثبت فيها إساءة استخدامه لمنصبه والإضرار بالوطن).
انتهى الاقتباس "بتصرف" !
أضيف لهذه الملاحظات الذكية أن الناشطين قد تحركوا قضائياً، وأعلنوا رأيهم في هذه التسريبات، واستنكروا استخدام هذه التسريبات بما فيها من انتهاك للخصوصية، ورُفِعَتْ عشرات الدعاوى ضد أشخاص طبيعيين واعتباريين، شملت تلك الدعاوى المخبر الذي أذاع، وجميع المؤسسات التي تورطت، بدءاً بشركات المحمول ووصولاً إلى القنوات المتورطة في الأمر، مروراً بمدينة الإنتاج الإعلامي، والهيئة العامة للاستثمار وغيرها من المؤسسات.
أما هؤلاء القادة الأشاوس فقد لاذوا بالصمت بعد أن أذيعت "تسريباتهم"، وبعد أن توالت فضائحهم بدؤوا بالاعتراف رويداً رويداً، مثل امرأة ضبطها زوجها في الفراش مع رجل غريب، ولكنها امرأة بذيئة ... لم تعترف بفحشها، بل بدأت تستقوي على زوجها بعلاقاتها المتعددة (في الحرام) مع بلطجية الحي كلهم !!!
"تسريباتنا" لم يحاسب عليها أحد حتى هذه اللحظة برغم كل ما فيها من إفك وانتهاك للقانون والدستور، وأقول لكم إن الحساب قريب، وسوف يكون حساباً عسيراً، وكل من تورط في هذه الجريمة (فرداً أو مؤسسة أو شركة) سوف يدفع ثمناً غالياً؛ لأن صفحة جديدة سوف تُفتح في تاريخ هذا الوطن قريبا بإذن الله.
هذه الصفحة الجديدة لن يُسمح فيها بانتهاك خصوصية أحد، ولن يُسمح فيها بأن تصبح مؤسسات الدولة مفتوحة للمتجسسين على كبار المسؤولين.
"تسريباتهم" سوف تضعهم أيضاً أمام القانون، ربما يهربون، ولكن في النهاية سوف يقفون أمام قاض لا يمكن أن يهاتفه أحد ليشفع في أحد، أو ليملي عليه حكماً ضد أو لصالح أحد !
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...