الشعب هو الضمانة
م. شاهر أحمد نصر
من الأمور التي أضحت جلية للسوريين أن الدول الكبرى والإقليمية لم، ولن تدع السوريين يحكمون بلادهم بسهولة... وربما يتذكر من قارع الفساد في سوريا، حتى قبل 15 آذار 2011، كيف كان يشعر بأنّه يقارع اخطبوطاً يحمي الفاسدين يمتد إلى خارج الحدود... وكنت ترى بنية الفساد تتباهى بفسادها، وتتشفى بإذلال مناوئيها، وعامة الشعب غير آبهة لا بحسيب ولا برقيب، فهي واثقة من أنها محمية أشد حماية... المسألة إذن ليست حديثة، وعلى السوريين إبداع بنية تساعدهم في حل هذه المعادلة المعقدة، وتحمي البلاد من التدمير والتفكك... وقد تكون الاستفادة من تجربة مصر مفيدة للسوريين في الخروج من الدمار، ولعل أهم ما يميز تلك التجربة هو تماسك بنية الدولة، ويعود ذلك في بعض جوانبه إلى أهمية وأفضال الأسس التي سعى محمد علي لترسيخها في بناء الدولة بمصر، في أواخر القرن التاسع عشر، والتي استمر تأثير طاقتها الكامنة، إلى العصر الراهن، على الرغم من كل ما تعرضت له من تهشيم، وتدمير، فضلاً عن أهمية دور مؤسسة القضاء المصري التي ساهمت في حماية مصر من الوقوع في دوامة المجهول في ثورتها المعاصرة بداية الألفية الثالثة...
إننا بأمس الحاجة لبناء الدولة على أسس مؤسساتية سليمة، تتطور وفق متطلبات الزمن، وتمتلك قوة وطاقة تكون حامية للوطن ولمؤسسات الدولة في زمن المنعطفات التاريخية؛ ومما لا شك فيه أن ذلك يتطلب جهوداً جبارة، وزمناً، يبدأ بوقف تدمير البلاد، ووضع خطة لانتقال البلاد إلى الحالة الديمقراطية المتحضرة، ويعد الحل السياسي أحد أسس ذلك...
لماذا مؤتمر جنيف:
يتفق العقلانيون في سوريا والغيورون على الوطن أن الحل السياسي كان وسيبقى ضرورة وطنية؛ والحل السياسي يتيح للشعب بكامل فئاته أن يقوم بدوره في إنقاذ الوطن... وتعد الدعوة إلى عقد مؤتمر جنيف2، فسحة أمل ينتظرها السوريون للخروج من حالة الدمار العبثي التي دفعوا إليها... (مع أن تعبير (مؤتمر جنيف) يدعو للارتياب لأنّه يذكرنا بدعوة مجلس الأمن منذ سبعينيات القرن العشرين لعقد مؤتمر جنيف لحل القضية الفلسطينية، وحتى الآن لم يعقد ذلك المؤتمر، حبذا لو تمت الدعوة إلى عقد مؤتمر في دمشق، وليس في جنيف، لمعالجة قضايا الوطن)... إنما تكمن أهمية وضرورة مؤتمر جنيف للحل السياسي في سوريا من أن المسألة السورية لم تعد سورية بحتة، بل وإنه وفضلاً عن التناقضات الداخلية، أخذت تتداخل فيها قوى ومصالح دول إقليمية وعالمية، لن يتم الحل بعيداً عن توافقها..
ومما يلفت الانتباه أن البعض في المعارضة يرفض عقد هذا المؤتمر، ـ وتنطبق على هؤلاء فكرة أن: الكثيرين في المعارضة مستعدون لممارسة مختلف صنوف الأعمال، إلا عملاً واحداً يتجنبونه، ألا وهو: العمل السياسي ـ ومن يوافق على العمل السياسي، والحل السياسي يطالب بضمانات من هذه الدولة أو تلك لحضور المؤتمر؛ وقد تكون التجارب المريرة السابقة هي الدافع إلى ذلك، لكن ذلك لا يبرر عدم السعي لإيجاد حل سياسي، بما في ذلك مؤتمر جنيف...
ثمة قوى وشخصيات من طرفي الصراع لا تريد انعقاد مؤتمر جنيف، ولا تريد للحل السياسي أن يتحقق، لأنها ترى في ذلك تهديداً لمصالحها، وفتح صفحة جديدة تسودها العدالة والمساءلة، وبالتالي ستعرقل الوصول إلى هذا الحل، كما أنها ستحاول إفشال مبادرات وبوادر حسن النية الضرورية للوصول إليه، ومن تلك البوادر الضرورية: وقف إطلاق النار، والافراج عن جميع المعتقلين، وفتح الأبواب أمام المهجرين والنازحين، والمنفيين للعودة إلى ديارهم بأمن وسلام...
لقد أصبح واضحاً أن عرقلة الحل السياسي تعني استمرار النزيف والدمار، وتهديد البلاد بمختلف أنواع العواقب من التفتيت والدمار والضياع، وهذا يخدم أعداء الوطن...
لماذا الشعب هو الضمانة:
دعونا نتخيل لوهلة أن الحل السياسي قد اعتمد، وأفرج عن المعتقلين، وعاد النازحون والمنفيون والمهجرون إلى ديارهم؛ واعتمد عقد اجتماعي جديد ينسجم مع تطلعات الشعب، ومتطلبات العصر؛ ألن يخلق ذلك حالة اجتماعية اقتصادية سياسية جديدة، عنوانها الحرية والكرامة والديمقراطية؛ وهل يمكن أن يرضى الشعب بعد كل ما عاناه أن تفرض عليه القيود القديمة... إن تضحيات الشعب الأسطورية، هي إحدى أهم ضمانات بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي يطمح إليها الشعب السوري، هذه التضحيات، التي تؤكد على أن سوريا بعد 15 آذار 2011 لن تكون سوريا قبل ذلك التاريخ، هي ضمانة كبرى لنجاح الحل السياسي المنشود كي تعود سوريا إلى أبنائها جميعاً، وكي يحكم السوريون بلدهم بعيداً عن الإملاءات الخارجية مهما كان نوعها...
الخوف من التطرف الديني:
يعلن البعض مخاوفه من هيمنة المتطرفين دينياً على مقاليد الحكم في سوريا، وربما يستندون إلى أن نداء "الله أكبر" هو النداء الذي طغى حتى على الحراك الشعبي السلمي الذي شهدته البلاد في بداية عام 2011، والتي اعترف الجميع بما في ذلك الحسلطة بشرعية المطالب التي طرحها... إن التخوف من نداء "الله أكبر" ينم عن عدم فهم حقيقي للمخزون الثقافي، والوعي البياني عند المسلمين عامة، والشعب السوري خاصة؛ فتعابير "الله أكبر"، و"بسم الله"، على سبيل المثال، هي مكون أساسي من الخطاب اللغوي اليومي لأبناء الشعب، ومفخرة لهم، وهي ليست حكراً على المسلمين، بل يوجد مسيحيون، وعلمانيون يرددونها بفخر أيضاً... وعندما عبر الشعب في لحظة تاريخية عن إرادته برفع نداء "الله أكبر" كان يعبر عن ضمير الإنسانية جمعاء... لأن نداء "الله أكبر" بأبعاده المعرفية، والنفسية، والإنسانية هو: دعوة إلى الخير، والتسامح والمحبة، والكرامة، والحرية... "الله أكبر" صرخة: أن لا للظلم، لا للفساد، لا للتخلف، لا لوأد البنات، لا لظلم أو اضطهاد النساء، لا للتمييز بكافة أشكاله ومظاهره... والشعب الذي تجذرت في أعماقه هذه القيم، هو الشعب نفسه الذي حمل الصلبان مندداً بمنتهكي حرمتها، وحمى الكنائس كما يحمي المساجد والجوامع، وحمى نصب الثقافة، والمعرفة؛ وهو الشعب الذي لا يمكن أن نتصور أنه يمكن أن يعيش في مجتمع لا تكون الحرية، ودولة القانون الدستورية المدنية التعددية أهم أركانها... وعندما نقول الشعب، نشمل قواه الوطنية والسياسية، ولا نتجاهل أهمية الجيش الوطني الموحد حارس حدود الوطن ومصالح الشعب، داعماً لحرية وكرامة الناس، نابذاً كل من يقمعها، ومحاسباً كل مسيء لواجبه الوطني الشريف... وكل هذه المقومات تبين وجود تربة وإمكانية موضوعية للتعامل مع المخاوف من التطرف الديني بشكل عقلاني ومعالجتها معالجة سليمة في ظل دولة القانون المدنية التعددية الدستورية المنشودة، عندما يسمح للشعب بتشكيل مؤسساته المدنية وأحزابه السياسية وجمعياته الثقافية التنويرية والاجتماعية الضرورية...
ما السبيل ليكون الشعب هو الضمانة
عندما نقول الشعب هو الضمانة، هذا لا يعني أن المسألة بهذه البساطة والسهولة، وبمجرد طرح الشعار يتم تنفيذه، بل يتطلب ذلك ضرورة إيجاد السبل الكفيلة بأن يأخذ الشعب دوره الحقيقي. ولن يتم ذلك إلا باعتماد عقد اجتماعي جديد في دستور برلماني رئاسي يضمن التعددية وتداول السلطة، ويفسح المجال لمؤسسات المجتمع الأهلي والمدني والسياسي بالتفتح... علماً بأن اعتماد الدساتير المتحضرة غير كاف، بل لا بد من وجود آليات لحمايتها وفرض قوتها قانونياً بعيداً عن أساليب الحكم الأمنية السابقة... وبهذه الطريقة يبقى الشعب بجميع فئاته، الدينية والمذهبية، وقومياته العربية، والكردية، والتركمانية، والآشورية، والسريانية وغيرها، الذي ضحى، ومازال يضحي صوناً لكرامته، ولحماية تراب الوطن من الغزاة وصيانة وحدته، هو الضامن لنجاح الفعل السياسي الوطني الصادق المعبر عن مصالح الوطن ومصالح أبنائه جميعاً، بصرف النظر عن انتمآتهم القومية، أو الدينية، أو المذهبية، أو السياسية... ولن يصون الوطن ووحدته غير هذا الشعب، كما أثبتت الأحداث أن الغيرة على الوطن تحتم ضرورة أن يأخذ الشعب دوره في حماية الوطن، من خلال فتح الآفاق أمامه لممارسة العمل السياسي السليم، وبناء مؤسسات الدولة العصرية السليمة...
ثمة خشية تكمن في أن تستطيع القوى المناهضة للحل السياسي في سوريا أن تتغلب، ويستمر نهج العنف المسلح، وتتحول الأفكار أعلاه إلى أحلام رومانسية، كما تحولت الكثير من الأفكار التي دعا إليها مفكرو، ومثقفو سوريا منذ عشرات السنين، نتيجة تجاهل كل دعواتهم... ولكن، ومهما طال الزمن، سيبقى الحل السياسي هو المخرج، وهو ما سيصل إليه السوريون، وسيعلو صوت العقل، وسينتصر دعاة العقل، ولن ينتصر دعاة العنف مهما طال الزمن، وسيدفعون الثمن، إنما سيدفع الوطن الثمن غالياً أيضاً، وهذا ما يجب تجنبه. ويبقى الحل السياسي في صالح كل الأطراف من الموالاة والمعارضة الغيورة على صالح الوطن.