مأزق ثورة سوريا في ضوء صفقة الكيميائي
ياسر الزعاترة
لم نكن في حاجة إلى صفقة الكيميائي التي تابعنا تفاصيلها مؤخرا كي ندرك حجم المأزق الذي تعيشه الثورة السورية، وخلل ميزان القوى الذي يحول بينها وبين تحقيق الانتصار رغم الإرادة التي يمتع بها الثوار، ورغم الصمود المذهل الذي أبداه الشعب السوري في مواجهة نظام دموي لا يرحم.
وفي حين يبدو البعد الأول للمأزق الذي تعيشه الثورة السورية هو البعد الداخلي ممثلا في استناد النظام إلى أقلية متماسكة تتحكم بالمؤسسة الأمنية والعسكرية، ومن حولها أقليات أخرى ينحاز أغلب أبنائها للنظام، فإن البعد الخارجي هو الأكثر وضوحا على صعيد خلل ميزان القوى الذي منح النظام فرصة الصمود لعامين ونصف العام رغم الضربات التي تلقاها، ورغم سيطرة الثوار على حوالي 60% من التراب السوري.
لقد تمتع النظام بحجم إسناد خارجي بالغ القوة والتماسك، ولولاه لما كان بوسعه الصمود كل هذا الوقت، وتتشكل عناصر ذلك الإسناد من دعم إيران وحلفائها (العراق وحزب الله بشكل خاص، مع مليشيات شيعية أخرى) والذي تجاوز البعد العسكري المباشر (مقاتلين وأسلحة) إلى البعد الذي لا يقل أهمية ممثلا في البعد الاقتصادي.
وحيث يعلم الجميع أنه لولا الأموال التي تتدفق من إيران لدعم النظام، ومن العراق أيضا، لما كان بوسعه الصمود كل هذا الوقت، وصولا إلى قدرته على الصرف على المجهود العسكري الرهيب، معطوفا على مصاريف الدولة في ظل غياب عناصر الدخل الأخرى، أو أكثرها.
إلى جانب الدعم القادم من إيران وحلفائها يبرز الدعم الروسي الذي تمثل في البعد العسكري، لكنه كان أكثر وضوحا على الصعيد السياسي، حيث وقفت روسيا كسند سياسي عنيد وسط حالة تعددية قطبية منحتها فرصة التأثير الكبير في المشهد الدولي.
وقد جاءت قصة الكيميائي الأخيرة لتثبت أن روسيا تمثل بالفعل سندا بالغ القوة والتأثير للنظام، حيث تمكنت من الناحية العملية من إخراجه من مأزق كبير يتمثل في ضربة عسكرية لم تكن في وارد إسقاطه، لكنها وضعته في حالة خوف حقيقي.
على أن الأهم من ذلك كله في عناصر المأزق الذي تعيشه الثورة السورية هو ذلك المتمثل في الدعم المحدود الذي تتلقاه إذا حُسب بمنطق ميزان القوى مقارنة بالدعم الذي يتلقاه النظام، ذلك أن الجبهة التي تُحسب بوصفها داعمة للثورة تعيش تناقضات كبيرة تؤثر عليها وعلى واقع دعمها.
ليس من العسير القول إن الدولتين الوحيدتين اللتين كانتا حريصتين على انتصار الثورة منذ الشهور الأولى لحمل السلاح هما تركيا وقطر، الأولى بسبب القطيعة التي فُرضت عليها مع النظام بعد تردد طويل، ومن ثم الاستنزاف الذي بدأ يطالها من استمرار الثورة دون حسم، والثانية بسبب انحيازها التقليدي إلى جانب الثورات.
ما عدا ذلك، كانت للدول الأخرى حساباتها الخاصة في التعامل مع الثورة، فهي من جهة تريد العمل على تحجيم المحور الإيراني، فضلا عن حاجتها لدعم الثورة في ظل انحياز شعبي داخلي عارم لها، وهي من جهة أخرى لم تكن تريد للثورة انتصارا واضحا يمنح دفعة للربيع العربي الذي كانت مواجهته هي أولويتها الرئيسة خشية وصوله إليها، لاسيما أن القوى التي تصدرت المشهد بعده هي القوى الإسلامية، وهي ذات القوى الأكثر فاعلية على صعيد الداخل عندها.
ولأن السياسة أولويات، ولأن أولوية بعض داعمي ثورة سوريا هي مواجهة الربيع العربي، بينما تأتي إيران في المرتبة الثانية، فقد وجدت تلك الدول أن استمرار النزيف السوري يحقق الهدفين معا، إذ يستنزف إيران من جهة، ولا يمنح ربيع العرب دفعة جديدة بانتصار الثورة بشكل واضح من جهة أخرى.
أميركيا وغربيا، لم تكن هناك إرادة ولا في أي لحظة لدعم الثورة على نحو يمنحها فرصة الانتصار، وذلك رغم بعض الخطاب السياسي الذي يناصرها، إن كان بسبب تبني قيم الديمقراطية في الظاهر، أم كان بسبب الموقف من إيران.
وحين نتذكر أن أميركا هي التي كانت تضغط دائما لمنع السلاح النوعي عن الثوار، فسيكون بوسعنا إدراك حقيقة الموقف الغربي التابع بشكل واضح لهواجس دولة الاحتلال التي وجدت في ثورة سوريا ثقبا أسود يستنزف إيران وحزب الله وتركيا وربيع العرب ويخلق فتنة سنية شيعية تريحها من وجع الرأس الذي يتسبب به الجميع، بل يمهد الأجواء لتسوية سياسية مع الفلسطينيين تحقق أغلب مطالبها.
وقد ازداد موقف هذه الجبهة وضوحا بعد صعود نجم الجماعات الجهادية في الثورة السورية، والتي يمكن القول إن دورها كان كبيرا في مواجهة النظام، لكن تأثيرها السياسي كان سلبيا على المواقف الدولية، وبعض العربية من الثورة.
في ظل هذا الخلل في ميزان القوى بين الثورة والنظام وجدت الثورة نفسها في حالة من المراوحة والاستنزاف، الأمر الذي ينطبق على النظام، ولولا قوة الإرادة والعزيمة للثوار، وصمود الشعب لكانت الثورة في وضع أسوأ، لاسيما بعد أن دخل حزب الله والحرس الثوري ومليشيات شيعية على الخط في ميدان القتال.
والحال أن هذا المأزق الذي تعيشه الثورة لم يكن غائبا عن وعي الكثيرين منذ البداية، وهو تحديدا ما دفعنا إلى القول منذ الشهور الأولى لحملها السلاح إننا أمام مشهد أفغاني بامتياز، سواء في بعده المتعلق بميزان القوى وطبيعة الصراع، مع فارق غياب ما يعادل القوة الأميركية في الحالة الأفغانية، أم في بعده المتعلق بمشاركة القوى الجهادية في الصراع، ويبدو أن هذا الأمر قد تأكد بشكل أكثر وضوحا الآن، من دون أن يكون بوسعنا التكهن بالوقت الذي ستستغرقه المعركة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، لاسيما بعد تلاشي سيناريو الضربة العسكرية، هو إلى أين يمضي المشهد، وهل نحن إزاء سيناريو استنزاف طويل جدا، أم أن الحسم قد يكون قريبا، وهل ثمة احتمالات أخرى؟
يبدو من الصعب الجزم بالقادم في المدى القريب، لكن احتمال الاستنزاف الطويل يبدو الأكثر ترجيحا، إذ لن يسمح داعمو الثورة بحسم من قبل النظام بعد كل الذي جرى، وفي المقابل فإن احتمال أن يلقي هؤلاء بثقل أكثر وضوحا لمنحها فرصة الانتصار لا يبدو قريبا أيضا في ظل الحسابات السياسية التي أشرنا إليها، وفي ظل المخاوف من دور الجماعات الجهادية.
الاحتمال الآخر يتمثل في أن يفرض المجتمع الدولي حلا وسطا يقبل به الروس، ويرضي الأميركيين (ومن ورائهم الكيان الصهيوني). حل يحركه هاجس الجماعات الجهادية أكثر من أي شيء آخر، وهو حل قد تدعمه تركيا وإيران تجنبا لمزيد من الاستنزاف الذي تتعرضان له، وقد يكون حلا برعايتهما أيضا إذا ما تفاهما عليه.
الاحتمال الآخر الذي قد يأمل فيه كثير من السوريين يتمثل في أن تحسم الدول الداعمة للثورة أمرها، وتتخذ قرارا واضحا بإلقاء ثقلها في اتجاه الحسم، حتى لو أخذت هواجس الخائفين من الربيع العربي بالحسبان، بحيث يؤدي ذلك إلى تغيير كبير في ميزان القوى، ومن ثم تغيير متفق عليه يأخذ في الاعتبار مصالح الجميع بعيدا عن مطالب إيران وحلفائها، وبعيدا عن الإملاءات الغربية والمطالب الإسرائيلية أيضا.
نتحدث هنا عن البعد الخارجي لأنه الأكثر تأثيرا، لكن البعد الداخلي لا يقل أهمية بحال، ويتمثل في تفاهمات أكبر بين قوى الثورة وفصائلها يقدم إسقاط النظام على أي هدف آخر، إلى جانب مساعٍ جادة لتفعيل البعد الشعبي للثورة، والذي غاب تماما في المرحلة الأخيرة، الأمر الذي ساهم عمليا في تغييبها كثورة شعبية وحشرها في إطار من التمرد المسلح على نظام سياسي.
إذا لم يحدث شيء من ذلك، فإن خيار الاستنزاف الطويل سيبقى قائما إلى أمد لا يُعرف مداه، لكنه لن ينتهي أبدا ببقاء بشار الأسد في السلطة، وحينها ستدرك إيران وحلفاؤها أية جريمة ارتكبوها بحق أنفسهم، وبحق سوريا وشعبها، وبحق الأمة بأسرها التي دخلت في مزاج حشد مذهبي غير مسبوق.
لقد جاء اتفاق الكيميائي ليفضح حقيقة النظام وداعميه، بخاصة إيران، فقد أسقط الاتفاق حكاية المقاومة والممانعة، وتبدى النظام وحلفاؤه على حقيقتهم كأصحاب مشروع طائفي لا صلة له بالمقاومة ولا بالممانعة، وقد أثبتوا قابليتهم لبيع كل شيء من أجل بقائه، وهم الآن بصدد تكرار اللعبة فيما يتصل بالملف النووي في إيران. ولا شك أن هذه الفضيحة سيكون لها دورها أيضا في تحسين شروط المعركة، أقله من الناحية السياسية.