احتضار الشرق الأوسط

احتضار الشرق الأوسط

فادي الحسيني

منذ زمن وكأن الشرق الأوسط يبحث بلا كلل عن منابع الآلام، ويتشبث بما إستطاع من قوة بأي مصدر من مصادر الأحزان، يراجع كتب التاريخ ليتصيد الإخفاقات ويرصد ما يفتت ويفرق بين عثرات الزمان، فتفتح جروح قديمة تارة، وتبتدع مآسى جديدة تارات، فتستمر حالة الإحباط، وترهق النفوس وتستنزف الطاقات، ويبدأ اليأس يتسلل إلى مكنون النفوس، لتتسع الفجوة بين ثقة العودة للأمجاد وعدم اليقين من مستقبل حاضره مشبع بالنكسات، فما أن يفارق حزناً يلحقه كرباً، وإذا ما أن إندمل جرحاً تعمقت جروح، أما المعيب فهو أن ما يحدث في أرضنا ليس بأيدي أجنبية جاءت من وراء البحار أو من خلف الأسوار، وإنما بفعل أيدينا، وبشكل متقن وبمهارة إستحقت التحية من أعداء كرهوا نهضة أمة رسمت يوماً أعظم فصول في كتب التاريخ وفي الأسفار.

قد تكون مقدمتنا متشائمة بعض الشيء، ولكنها إنعكاس صادق لغيرة على ما يحل بالأمة، وبعيداً عن هذه التعبيرات، سنحاول في مقالنا اليوم تشخيص واقع الأمور، وتحليل حاضر منطقتنا، وذلك من أجل قراءة أفضل وتقدير السبيل الأمثل للخروج من أزمتنا. 

ونبدأ هنا بحقيقتين في غاية الأهمية: أولاً، الشرق الأوسط بإسمه الحالي هو تسمية غربية بامتياز، إبتدعتها بريطانيا لتفرق بين هذه المنطقة ومنطقة الشرق الأدنى، حيث كان "الشرق الأوسط" يعني العراق وإيران وأفغانستان، أما "الشرق الأدنى" فيعني بلاد الشام، ومصر، ولبنان، وفلسطين، والأردن. وكان Alfred Thayer Mahan هو أول من أطلق مصطلح الشرق الأوسط عام 1902 في أحد أعداد مجلة the British journal National Review، وكانت بعنوان "الخليج الفارسي والعلاقات الدولية"، في محاولة لتعريف المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط والهند.

توالت من بعدها التعريفات، إلاً أن هذه التسمية إكتسبت شهرة واسعة، لدرجة أن كثر قاطني هذه المنطقة باتوا يعرفون أنفسهم بالشرق أوسطيين. أجتهد الكثير من الأكاديميين والكتّاب لتحديد ملامح وحدود الشرق الأوسط، جغرافياً وسياسياً، وأشار البعض إلى ضرورة إعادة تسمية وتعريف الشرق الأوسط نتيجة للغموض الذي يكتنف ملامح هذا التعريف، فحتى اللحظة لا يوجد تعريف دقيق للشرق الأوسط ودوله،  فبعض تعريفات الشرق الأوسط تذهب بعيداً لتشمل أفغانستان والباكستان شرقاً، وغرباً لتشمل المغرب، وجزيرتي مالطا وقبرص وتركيا شمالاً، وجنوباً لحدود منطقة إتصال العرب بالشعوب الأفريقية.

إذا ما العجب في أن تبتدع الولايات المتحدة الأمريكية مشروعاً جديداً أسمته الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، فالغرب هو من أطلق التسمية الأولى، وبشكلها الحالي، وأي تسمية جديدة لن تغير كثيراً من واقع الأمور، حتى وإن كان بواقعها السياسي. وهذا ما ينقلنا للحقيقة الثانية، وهي دول الشرق الأوسط. فكما هو معلوم، الإستعمار الغربي هو من قام بخلق دول في منطقتنا بحدودها الحالية، فبعد أن ظن العرب أنهم قاموت بثورة عام 1914 ليتخلصوا من الحكم العثماني، تفاجأوا بأن من تحالفوا معه لهذه الغاية كان يحيك مؤامرة أخرى في الخفاء، وكانت النتيجة إستعمار جديد، وتفتيت للمنطقة، لخصها الأكاديمي التركي د. محمد شاهين بالقول: "ما حدث في الثورة العربية هو أن العرب إستبدلوا أسياداً بأسياد آخرين."

وكان عام 1916 بداية رحلة تقسيم العرب، حين وقعت كل من فرنسا والمملكة المتحدة سراً على تفاهمات سايكس بيكو (المعروفة رسمياً بإسم إتفاق آسيا الصغرى)، وبمصادقة من الإمبراطورية الروسية. فتم بالفعل ما أراد الغرب، وتم تقسيم المنطقة لدويلات صغيرة، تبقى حدودها محل خلاف إلى يومنا هذا، تتفسخ من خلالها القبائل والعائلات والروابط، وتجهض أية فرصة لوحدة كما بدت عليه المنطقة قبل بدء حقبة الإستعمار. إن الهدف من وراء تقسيم المنطقة من قبل القوى الإستعمارية، هو ذات الهدف حين قسمت ذات القوى ألمانيا إلى شرقية وغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وهو إضعاف وتفتيت قوة قد تنهض يوماً وتصبح تهديداً لهيمنتهم وسيطرتهم. ومع إستمرار حياة هذه الدويلات في منطقتنا، زرعت ثقافة "الوطن" كبديل عن "الدين" و"القومية"، فبدأت الشعوب تبتعد رويداً رويداً عن بعضها البعض، فوصل العداء والشقاق أحياناً إلى حروب بين شعوب كانت ذات يوم قوم واحد.

الهزائم المتتالية، والانتكاسات المتتابعة جعلت العرب يبحثون عن طوق نجاة يوحدهم في مواجهة هذه التحديات، وتمثل هذا في فترة من الفترات بفكر القومية العربية، على الرغم من أنه لم يكن هناك يوماً دولة عربية موحدة تجمع العرب بحدود الوطن العربي من المغرب إلى عمان. فلقى هذا الفكر صدى قوي في فترة الخمسينيات من القرن الماضي، وخاصة مع إنشاء دولة إسرائيل، فظهرت القومية العربية كفكر مناوئ لفكر الصهيونية التي أسست دولة إسرائيل وسط شعوب العرب. بدى هذا الفكر قوياً راسخاً، فبصوت واحد وقوي رفض العرب خطة تقسيم فلسطين عام 1948، ووصلت لحد المواجهة المسلحة حيناً، والاقتصادية حيناً آخر. إلا أنه ومع مرور الوقت، بدأ الوهن يدق في أواصر هذا الفكر والحراك، وبدأ الفتور يشق طريقه إلى النفوس، وخاصة بعد معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية، حيث كانت بداية لفصل جديد من فصول إنكفاء القومية والوحدة العربية. وحين دخلت القوات الإسرائيلية لعاصمة عربية (بيروت) عام 1982، لم يكن هناك أي صدى عربي يذكر، وعلل الكاتب Bernard Lewis هذه الحالة بسبب الإنشقاق الذي تسلل بين العرب، وخاصة مع بدء الحرب العراقية- الإيرانية، وتوتر العلاقات بين العراق وسوريا.

إستمرت حالة الخسوف، ولم يؤدي القصف الأمريكي على عاصمة عربية أخرى (طرابلس- ليبيا) عام 1986 إلى أية رد فعل عربية، والحالات كثر نحن في غنى عن ذكرها جميعاً. ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير هو إحتلال صدام حسين للكويت عام 1990، حيث بدى العرب معسكرين متناقضين، وإستقدم بعض العرب قوات أجنبية لتحرير دول عربية من إحتلال دولة عربية أخرى. ثم إحتل العراق، وسط صمت أو تأييد أو مساندة البعض، فدمر العراق، وقتل مئات الألاف، وكأنه إعلان رسمي بتهاوي الفكر العربي القومي الوحدوي، حيث جاء كنتيجة لعملية طويلة من الأفول، وليس وليد هذه اللحظة.  

وحين يشعر الفرد بالخوف أو القلق، يبدأ بالبحث عن مجموعة أو عصبة يقوى بها، وهو ما فعله العرب حين بدأت العروبة تأخذ طريقها بين جموع الناس. إلا أنه ومع إنكفاء العروبة، بدأ البحث عن رابط جديد، وكان هذه المرة الدين، ودخلت المنطقة في فصل جديد يصعب التنبؤ بخاتمته. وبدأت تنعكس خطورة هذا الرابط الجديد بممارسات غير مسبوقة على أرض العرب، فالاقتتال الطائفي بدأ ينتشر كالنار في الهشيم، وأصبحت منابر الإعلام أبواق لتغذية الكراهية وزرع الطائفية، والتحريض على الآخرين، وسط تناسي الرابط الأسبق: العروبة.

وإن كان هذا خيار عربي، إلا أن الأيدي الأجنبية لم تكن بريئة في ترسيخ وتغذية هذا الواقع، ومنذ حين. فقد قامت القوى الغربية بوضع أقليات طائفية في بلاد هي رسمت حدودها (مثل السنة في العراق، والعلويين في سوريا)، وشجعت الهجرة لغير المسلمين، مقدمة لهم تسهيلات كبيرة، وغضت الطرف عن تسلح دولة ذات مذهب لكي توازن قوة دولة ذات مذهب آخر، فيبقى الصراع ويستمر الاقتتال. وما الحالة السورية إلا تجسيد لهذا التوجه الأجنبي، فيطال أمد الصراع في سوريا ليستنفذ المزيد من مقدرات العرب، ولكي يستدرج المزيد من محاربي الطائفتين، فيستمر الاقتتال الطائفي في سوريا، بل ويتسع ليذهب أبعد من حدودها، مع تأجيج الفضائيات ووسائل الإعلام. لم يجانبه الصواب من وصف الصراع في سوريا بأنه حرب بالوكالة، بين قوى عالمية كبرى، إلا أن سير الأحداث يثبت بلا شك أن تلك القوى، حتى وإن لم تتفق علانية، تقاطعت مصالحها بإطالة عمر الصراع في سوريا، وتسليح واشنطن للمعارضة وموسكو للنظام خير دليل.

ويبقى رباط الدين الأسمى والأجدر، إلا أنه من الخطورة ليحرق كل من يقترب منه إن أسيئ إستخدامه. وفي خضم البحث عن رباط يجمعنا مع إستمرار الأوضاع التي تعيشها المنطقة، يبدو أن إعادة أحياء العروبة، فكراً وشعوراً وحراكاً الأنسب، فيجمع العرب بمختلف أطيافهم، وإنتماءاتهم، ولا يفرق بين مسلم ومسيحي، بين سني وشيعي، فالجميع عرب. ولدى العرب من المقومات الكافية الموحدة من ثقافة وتاريخ ولغة، وحتى إنتكاسات ومخاوف واحدة، وهي أمور تسهل ترجمة هذا الفكر لواقع عربي وحدوي.