الأزمات العربية والوساطات الغربية
د.مصطفى يوسف اللداوي
ما من أزمةٍ عربية، وهي كثيرة، إلا ويتولى الغرب، الأوروبي والأمريكي، قديماً أو حديثاً، كِبر الوساطة فيها، بمبادرةٍ ذاتية منه في الغالب، دون أن يطلب منه أطراف الأزمة ذلك؛ إذ يتصدى لمواجهة الأزمات، ويفرض نفسه وسيطاً، ناصحاً أميناً، ومخلصاً نزيهاً، خائفاً على مصالح العرب وأمن مواطنيهم، وساعياً إلى السيطرة على الأزمات أو تطويقها، والتحكم فيها أو التخفيف من أضرارها، ومنع أطراف أخرى من الإنخراط فيها، والمشاركة في تعميق الأزمة وإطالة أمدها.
ينبري الغرب للقيام بدور الوساطة وإن لم يكن متضرراً من الأزمة، أو شاكياً من تداعياتها على أمنه ومصالحه، فلا احتمال لانتقال الأزمة إلى بلاده، ولا خوف من تورط حكوماته فيها، ولا قلق من إمكانية انتقال عناصرها ومكوناتها إلى بلادهم.
يُبدي الغرب بشقيه قدراً عالياً من "الشهامة والمروءة والنُبل"، ويظهر قادته في المشهد وكأنهم "يتمتعون بالحكمة، ويُظهرون المصلحة، ويغارون على الشعب والدولة، ولا يتآمرون على العرب وأوطانهم، ولا يكيدون لهم ولشعوبهم"، فيعقدون العزم على التدخل، ويدرسون المشكلة التي هي في الغالب من صنيعهم، أو هي من بقايا استعمارهم، بل هم جزماً أحد صناعها وأكبر مفجريها، وهم الذين يُمولونها ويرعون بعض الفرقاء فيها، ولهذا فإنهم يستقسون أسبابها، ويعرفون أطرافها، ويُلمون بتفاصيلها، ثم يُشكلون الوفود بعد أن يُسموا الرؤساء أو المبعوثين، ويقومون بزياراتٍ مكوكية إلى العواصم العربية المشتعلة والملتهبة، وتلك التي تقف على فوهة برميل من البارود تكاد أن تفجر، فيُقدمون "النصح والإرشاد"، ويقترحون خرائط الطرق ووسائل النجاة، ويرسمون الخطوط الزرقاء، ويُصدرون الكتب السوداء والبيضاء، والعرب يُصدقون كل نُصح، ويثقون بكل وسيط، ويرمون أحمالهم على كل متعهد، ويُعلنون أمام الوسيط أنهم سيتبعون نُصحه، وسيُطبقون خرائطه..!!
الوسطاء الغربيون يتزاحمون على بوابات كل العواصم العربية، ويشغلون مطاراتها، وينشط المسؤولون العرب في استقبالهم والحفاوة بهم، ويُنزلونهم في أفخم الفنادق، ويلقون منهم أفضل المعاملة، وتقوم على خدمتهم وحمايتهم طواقم فنية وأمنية، مدربة ومؤهلة، كلهم يسعى للحصول على رضاهم، أو نيل البركة منهم، فضلاً عن خوفهم من تسجيل أي ملاحظةٍ عليهم، أو تقصيرٍ منهم، أو إهمالٍ في مهمتهم، أو محاولة لتضليلهم وخداعهم، فالموفدون الغربيون حساسون ودقيقوا الملاحظة، فلا ينبغي جرحهم أو المساس بمشاعرهم، لئلا يفشلوا في مهمتهم، أو يُعطلوا دورهم..!!
إنهم حاضرون في كل العواصم العربية، يتغيرون ويتبدلون ويتشكلون، فهم قد غيروا موفديهم إلى دمشق مراراً، وعددوا مبعوثيهم إليها، أوروبيين وأمريكيين وأُمميين، ولكنهم لم يُثغيروا من الأمر شيئاً، ولم يجلبوا السلام إلى سوريا، ولا الأمن إلى مواطنيها، ولم يؤمنوا المشردين، ولم يجدوا حلاً لللاجئين، ولم يتمكنوا من جمع الفرقاء، أو التوسط بين مختلف الأطراف، بل زادوا في عمق الأزمة، وباعدوا بين المختصمين، وأطالوا في أمد المعركة، وجعلوا الحل مستعصياً بعد أن ربطوه بهم، واشترطوا لتوقيته ونجاحه قبولهم به، وموافقتهم عليه..!!
وهم في العراق كانوا، جميعاً قد حضروا، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على رأسهم، وقد جاؤوا بجيشٍ لجبٍ عظيم، "ليُخلصوا العراق من مشاكله، ويُنقذوه من الأخطار المحدقة به"، فدمروه وخربوه، وقتلوا شبابه وأمعنوا في إذلال معتقليه من أبنائه، وشردوا أهله، وسرقوا خيراته ورهنوا مقدراته، وسلموه إلى المجهول الذي يُشبه الجحيم في أُواره ولهيبه ومتفجراته، ولا أعتقد إلا أنهم قد بذروا فيه بذار خلافٍ وانقسامٍ واقتتالٍ قد يدوم إلى الأبد.
وفي ليبيا جاؤوا على عجل، بدعوى نصرة المستضعفين، والانتصار للثائرين، والحد من بطش واستبداد الحاكمين الظالمين، ولكنهم استهدفوا قوة ليبيا، ومخزونها الكبير من السلاح، ومستودعاتها المخبوءة من مختلف الأسلحة الرادعة فدمرها، ثم رحلوا، بعد أن استقطعوا من الحقوق الليبية والودائع الوطنية مليارات الدولارات، ليُغطوا بها تكاليف حربهم، وفاتورة نجدتهم ونصرتهم، ثم رحلوا بعد أن جمدوا الودائع، وصادروا المشتبه بها، وأبقوا غالبيتها في خزائنهم وبنوكهم، مانعين ليبياً من التصرف بها أو استعادتها، التي بقيت تتخبط في دمائها، وتتعثر بأقدام أبنائها، عاجزة عن المضي والانطلاق، وغير قادرة على الاتفاق والوفاق..!!
أما في مصر فقد جاؤوا مسرعين، فُرادى وجماعات، من مختلف الدول ومن كل الجنسيات، كلهم "يبكي" على مصر، ويُبدي خوفه على مستقبلها، ويخشى من إنزلاقها نحو حربٍ أهلية، واقتتالٍ دموي مرير، وكأن الذي يحدث فيها اليوم ليس حرباً أهلية، وليس قتلاً مريراً وحشياً قاسياً، لا يرحم صغيراً، ولا يستثني صبيةً ولا امرأةً، وكأن الذي تم لم يكن بعلمهم، ولا بموافقتهم، وهم الذين يُخصصون لكل ملفٍ خلية أزمة، وفريق عمل، ولجاناً مختصة، ولكن مع قدومهم إلى مصر هلّت البشائر، ووقعت المجازر، وسال الدم غزيراً، وحُوصر المتظاهرون، وأُطلق النار على المعتصمين، وتم اقتحام المساجد، وغرقت مصر في طوفانٍ لا نعرف أين منتهاه..!!
ومن قبل تسللوا إلى لبنان، وأوفدوا إليه مئات اللجان والمبعوثين، كلهم يفكر من أجل لبنان، ويقلق على مصيره ومستقبله، ويتخوف من بعض قواه وأحزابه، ولكن الحقيقـة أن عيونهم جميعاً كانت كلها على (إسـرائيل)، خوفاً عليها وحرصاً على أمنها ومصالحها، وفي لبنان الجريح ما زالت هيئاتٌ غربية دولية، تُدير ملف المحكمة الدولية، المكلفة بالبحث عن قتلة رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، فلا هي أنهت تحقيقها وأعلنت نتائجها، ولا هي توقفت عن المطالبة بدفع النفقات، وأداء الإلتزامات، في استنزافٍ يومي كان لبنان كله في غنىً عنه.
أما فلسـطين فكانت وسـتبقى هي العنوان الدائم لكل الموفدين والوسـطاء الغربيين؛ ذلك أن فلسـطين من وجهـة نظرهم هي (إسـرائيل)، وهم يعلمون أنـه لا وجود أصيل لدولـة اسـمها (إسـرائيل)، ولكن هناك وجودٌ أصيلٌ، شـرعي وقديم، لدولـةٍ كان ومازال اسـمها فلسـطين، لهذا تتكسـر نِصال الموفدين الغربيين في فلسـطين بعضها فوق بعض، يأتونها كل وقتٍ وحين، في الصيف والشـتاء، وفي الليل والنهار، فقط من أجل أن تبقى (إسـرائيل) قويـة آمنـة مطمئنـة، لا خوف يتهددها، ولا شـر يُحدق بها..!!
لسـت أدري لماذا نثق بالغرب ونُسـلم لهم، ولماذا نلجأ إليهم ونأمل فيهم، ونتوقع منهم "العدل"، أو عندهم "الإنصاف"، أو منهم الفرج، وعلى أيديهم الفوز والنجاة، ونحن الذين جربناهم قديماً وحديثاً، فخبرناهم وعرفناهم، فهم سـبب نكباتنا، وأسـاس مصائبنا، وهم صُناع هزائمنا، ورُعاة العابثين في بلادنا، والسـاهرين على مصالح أعدائنا، فهل نعود ونُصدقهم، وهل نُرحب بوسـاطتهم، وتبـش وجوهنا لمبعوثيهم وموفديهم..!؟