أولوية المفاوضات على العمل المسلح

عثمان أيت مهدي

استكمالا للمقال الأوّل عن "أولوية السياسي على العسكري" وعملا على توضيح دور السياسة والمفاوضات والحوار في توطيد دولة المؤسسات وإشاعة جوّ الأمان والحريات وتشجيع روح المبادرة والعمل على تطوير البلاد والعباد.

إنّ الصراع الذي دار بين مصالي الحاج زعيم الحركة الوطنية الجزائرية ولجنته المركزية في حزب انتصار الحريات الديموقراطية بخصوص مسألة الثورة مع بداية الخمسينات من القرن الماضي، هي السبب في ظهور جماعة لوص OS الجناح العسكري لهذا الحزب، ثمّ بتفويض الشعب الجزائري لها تأسست جماعة 22 التي انبثقت منها مجموعة الست التي فجّرت الثورة التحريرية ضد المحتل في أوّل نوفمبر 1954م. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت أولوية العسكري المستمدة من تفويض الشعب لها تطغى على أولوية السياسي.

ومن بين الأسباب التي أشعلت فتيل التقاتل بين جبهة التحرير الوطني والحركة الوطنية الجزائرية بقيادة مصالي الحاج هو اختلافهم في كيفية استرجاع الاستقلال الوطني، في الوقت الذي  كانت جبهة التحرير الوطني تنادي إلى الثورة والعمل المسلح، ترى الحركة الوطنية الجزائرية غير ذلك، وتفضل العمل السياسي والمفاوضات، وكان لهذا الصراع نتائج وخيمة على الإطارات والكفاءات السياسية التي تمرست في النضال داخل حزب الشعب الجزائري ثم الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية. وفقدت بذلك الجزائر الكثير من إطاراتها السياسية، وحلّت محلها الإطارات العسكرية التي أوصلت البلاد إلى الهاوية.

حاول عبان رمضان أن يعيد للفكرة صوابها، لكن دون جدوى، تغتاله يد الإجرام سنة 1957م بالمغرب. ويتبنى الجيش فكرة السياسي الواجهة للعسكري من الاستقلال إلى يومنا هذا.

يرى الكثير من الدارسين لتاريخ الشعوب التي تحررت بفضل الثورات والعمل المسلح أنّ بناءها للدولة المنشودة تعتريه الكثير من النقائص والسلبيات باستحواذ العسكر على مقاليد الحكم فيظهر الفساد والظلم والجهوية والمحسوبية وتبدأ أركان الدولة في الانهيار شيئا فشيئا. وهذا ما حصل في الجزائر، عكس ما وقع في  الدول التي تحررت بفضل حنكة السياسيين والمفاوضات الشاقة والماروطونية.

إنّ ما تعانيه ليبيا بعد القدّافي، ورفض بعض من شاركوا في الثورة ضد القائد المخلوع ترك أسلحتهم دليل آخر على مساوئ الثورات بالأسلحة، لأن العسكر يعطي لنفسه أولوية القيادة بفضل ما قام به من تضحيات وما يمتلكه من قوة تخوّل له فرض سيطرته. وما سيقع لسوريا بعد ثورتها ضد بشار الأسد، ستعيش صراعات وأزمات بين الفصائل المختلفة الحاملة للسلاح، وقد يكون خوف الدول الغربية تسليح المعارضة لهذا السبب، لا سيما الحركات الإسلامية المتطرفة وبعض الطوائف الأخرى المنادية للانفصال، إذا وقعت بعض الأسلحة المتطورة بين يديها فإنّها لا محالة تستميت من أجل أخذ نصيبها من الكعكة ولا تقبل بأيّ قسمة ترى فيه نفسها مظلومة.

ولم يتوقف الدارسون عند أمثلة الثورات مع نهاية القرن الماضي وبداية القرن الواحد والعشرين. فالتاريخ الإسلامي به الكثير من الأمثلة عن الدول التي دخلها الإسلام عن طريق القوة كدول شمال إفريقيا، والدول التي دخلها الإسلام عن طريق التجارة والدعاة والعلماء. فإذا أخذنا نموذجي أندونيسيا وماليزيا اللتين عرفتا الإسلام عن طريق التجارة وبعض العلماء نكتشف حقيقة الدول الأكثر إسلاما وأخلاقا في العالم الإسلامي، والدول التي آمنت عن طريق القوة والسيف، مزجت الجهل والعادات السيئة بتعاليم الإسلام، فكان إسلامها ضعيفا يشوبه الكثير من النفاق والكذب.

إنّ القوة العسكرية لا تفيد الأمم في شيء، فتنامي قوتها لا يعني ازدهارها وتطورها، بقدر ما يعني وصول مرحلة سقوطها واندثارها، وقد زالت الكثير من الأمم التي اعتمدت في توسيع سلطانها على قوة العسكر، وبقيت تلك التي اعتمدت على الحوار والسياسة والمفاوضات.