هذا العنف الارتدادي كيف نطوقه ...؟
ومجتمعنا المتسامح كيف نبنيه ؟
زهير سالم*
المفارقات المثيرة لردود الفعل :
حتى لا تستغل أي كلمة نكتبها في هذا المقام سأعلن ابتداء أنني ضد الانتقام ثقافة وموقفا وممارسة . وأنني أدين الفعل الخاطئ بغض النظر عن مرتكبه حتى لو كان رأس المقاومة والممانعة أو حامل لواء التحرر والتحرير .
ونعتقد أن العنف الذي آل وضع الثورة السورية إليه هو مسئولية مباشرة في عنق بشار الأسد وعصاباته من جهة ، وهو من مسئولية المجتمع الدولي الذي أطلق يد القاتل في أديم المجتمع السوري وامتحن هو وأولياؤه صبر هذا المجتمع طويلا من جهة أخرى .
كانت ومازالت سلمية هذه الثورة مطلبا . وكان المطلوب من المجتمع الدولي أن يوفر ظروف الثورة السلمية أو أن يبادر للأخذ على يد القاتل . نفرق بامتياز بين أن نرفض العنف كآلية لتحقيق أهداف سياسية وبين أن نمد أعناقنا كالأغنام لسكين الجزار .
وفي إطار هذا الرفض المبدئي للعنف السياسي ولسياسات الثأر والانتقام ولأي شكل من أشكال فوضى السلاح ، نؤكد قلقنا من خطر المستقبل الرهيب الذي يشترك بشار الأسد والمجتمع الدولي في دفع المجتمع السوري إليه .
ونعتقد أن دفع هذا الخطر الذي يضيق خناقه على أعناقنا يوما بعد يوم لن يتم بإرسال برقيات التطمين من مثقف متكئ على أريكته من هذه الجهة أو تلك .
يتقدم مشروعنا الوطني اليوم على خيط منصوب فوق وادي الجحيم . ولا بد للنجاة من الشر الذي يحيط بنا عن يمين وشمال من جهد جماعي يشترك فيه كل الصادقين . لن تنفع الإدانة .. ولن ينفع التطمين الزائف ، ولن ينفع أن يخلع مثقف حاله النفسي على حال هؤلاء المصابين في أعراضهم وأنفسهم وأموالهم حتى تحول كل واحد منهم إلى مرجل يكاد يتميز من الغيظ .
ولن ينفع كذلك هذا السلوك مزدوج المعايير الذي تغافل عن قتل عشرين ألف سوري حتى الآن بينهم ألفا طفل ليقيم مهرجانا لحوادث عرضية تجري هنا وهناك . سلوك لم يفهمه الضحايا المعنيون إلا أنه موقف عنصري تمييزي يجعل من دم شبيح واحد تم ضبطه بالجرم المشهود كما يقول الحقوقيون أكثر أهمية من دم شعب يراق بصمت هو أقرب للتواطئ في نظر هؤلاء . إن هذا السلوك بمفارقاته المثيرة هو أحد الأسباب المباشرة لزيادة تأجيج نار الغضب والاحتقان .
يجب ألا يخلط أحد فيما نكتب هنا بين التفسير والتبرير . ليس من هدفنا أن نبرر أي فعل خاطئ في أي سياق كان ومن أي جهة صدر ولكن التفسير أمر ضروري لفهم الواقع ووضع التصورات الأولية لتطويق النار .
العنف الارتدادي موضوعه واحتواؤه :
ينظر عملاء النفس إلى العنف الارتدادي على أنه جزء من القانون الطبيعي ينتقل من عالم الفيزياء ( قانون نيوتن الثالث ) الذي يؤكد أن لكل فعل مادي رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه إلى عالم النفس الإنسانية التي مهما تسامت وامتلكت من الإرادة التي تكبح ردود فعلها ستظل أسيرة حالة من الانفعال ، اضطر علماء السلوك إلى إدراجها تحت عنوان الدفاع عن النفس الذي هو حق من الحقوق الإنسانية الفطرية التي تحميها قوانين الأرض والسماء .
إن الاعتراف بهذا الحق الإنساني الفطري وتفهم أبعاده وحدوده هو أول الطريق إلى احتوائه . الاعتراف بهدا الحق لا يعني أن نطلق له المدى وإنما يعني ألا نجمع على الضحية بعد الخذلان المريب الإدانة السمجة عند أي رد فعل طبيعي على ما نزل وينزل به .
لأن هذه الإدانة السمجة ستجمع إلى الحشف سوء الكيلة كما تقول العرب . يجب أن يكون لدى الجميع المخطط العملي المنهجي التي يساعد هذه الأنفس المحتقنة المملوءة غيظا وقهرا على استعادة توازنها وثقتها بنفسها وثقتها بالعالم أيضا ولعل هذا هو الأهم . يجب أن يساعد المجتمع الدولي المجتمع السوري أن يستعيد ثقته به . نقصد بالضبط ثقة الثاني بالأول .
احتواء ارتدادات العنف حين تكون عوامل الاحتقان من حجم ما مر على الشعب السوري في عمقه وشموله وطول مداه لا يمكن أن يسند إلى فريق وطني سياسي أو ديني أو عرقي ؛ بل يجب أن يضطلع بمشروعه المجتمع الدولي والمجتمع السوري مجتمعين ، المجتمع الدولي الذي تخاذل على مدى أربعين عاما وهو يسقي الشعب السوري من كأس الفتنة والمحنة . أربعون عاما مر وسورية لا خبز ولا حرية كما أرخ له الكاتب الفرنسي ألان جورج وكان العالم اجمع مطلع على الواقع بكل أبعاده ، مطلع على الدور الذي لعبه المئات من ميشيل سماحة في دوره المنكشف . كان المجتمع الدولي يراقب الكوميديا السوداء بصمت .
ليس من الحكمة أن يلح المجتمع الدولي على المجتمع السوري بالسؤال عن أمن الأقليات ، ومستقبل الأقليات ، لأن المتلازم الشرطي لهذا الإلحاح أن يرد هذا المسئول على السؤال بسؤال : وماذا عنا نحن الذين وضعتم أعناقنا تحت سكين الجزار على مدى اربعين عاما ، وكيف قبلتم أن تضحوا دون أن ينتابكم قلق أو يرف لكم جفن بهذا المجتمع الذي ما ارتكب يوما خطيئة بحق قليل أو بعيد أو غريب ؟ يفهم السؤال المريب على أنه تعبير عن موقف عنصري يجيز للمجتمع الدولي أن يضحي بالكثير واقعا حذرا من تخوف متوقع على القليل .
نعتقد إن الخطاب الأمثل في علاج ما نحن فيه أن يخرج الجميع في الداخل والخارج معا من الحديث الطائفي . أن تتوقف أحاديث الأقليات ومخاوف الذين يصرون على النوم بين القبور . إلى الحديث عن المجتمع المدني الموحد . ودولة المواطنة في مجتمع ( الناس سواسية كأسنان المشط ) .
لقد أثبتت شهادة الواقع أن تخوفات البطرك اللبناني بشارة بطرس الراعي التي طار إلى باريس ليعبر عنها كانت مجرد ترسبات ذات طبيعة ايديولوجية . وأن مصدر الخوف الحقيقي الذي كاد أن يودي بحياة البطرك نفسه ما يعتلج في خلجات النفوس الطاغية المستبدة التي يعرف العالم أجمع كم قتلت من سكان سورية وسكان لبنان .
الاعتراف بالشعب السوري – الأمر الذي ما يزال المجتمع الدولي يداور ويناور فيه – هو أول الطريق إلى تطويق العنف الارتدادي وامتصاص آثاره التي لا يمكن لعاقل أن يستهين بها .
ثم لا بد بعد هذا الاعتراف بالمجتمع بكل أطيافه من تمكين أهل الرشد فيه من تحمل مسئولياتهم في القيام على امر شباب يحبهم ويحبونه ، يثق بهم ويثقون به . وإن كف يد أهل الرشد أو التخطيط لإقصائهم أو تغييبهم ستكون ارتداداته أكثر خطرا مما يتصور هؤلاء المتخبطون ..
وقبل الحديث عن أي خطوات عملية أو قانونية على طريق ما يسمى العدالة الانتقالية . سيكون قادة مشروع الرشد قد عبؤوا العقول والقلوب بثقافة العفو والسماحة واليسر التي هي الجزء الأوفى من شريعة ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ...)
ثم لا بد أن ينطوي مشروع العدالة الانتقالية على ضمانات عملية مقنعة لصاحب حق يتمسك بحقه بدون تفريط ولا تمييع ولا فذلكة للجريمة ...
مشروع العفو يتوج مشروع العدل وكلاهما يظلل مجتمعا موحدا هو حلم الغد الذي يتطلع جميع السوريين إليه ويحتاجون إلى من يشجعهم للوصول إليه وليس إلى من يضع العقبات بينه وبينهم .
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية