شيء عن البعث
تعقيب على مقال الصديق الأستاذ صالح قلاب
عقاب يحيى
في صحيفة الشرق الأوسط كتب الصديق، الوزير الأردني السابق، والبعثي قديماً، المطلع على مسار البعث وأحداثه، مقالاً مهماً بعنوان : " البعث" شبع اجتثاثاً، والأسد باع العروبة وتحول إلى "القومية السورية".. المقال مهم، ويتعرّض لمراحل مهمة في تاريخ البعث،
ويلقي أضواء على جانب طالما أثار الأسئلة : موقع القوميين السوريين في البعث..
ولأن الموضوع يثير الشهية للكتابة المؤيدة في أغلبها لما جاء في المقال، سأكتفي بالتركيز على عدد من النقاط المحورية :
1 ـ البعث في سورية بعد الوحدة ليس هو قبلها، لقد أسهم قرار قبول قيادته بحله عربوناً للوحدة مع مصر، وتلبية لشروط عبد الناصر بتوليد مجموعة من الوقائع والأزمات التي رافقته، وحطّت بكلكلها عليه بعد انقلاب الثامن من آذار 1963، وقبول قيادته تغطية الانقلاب، ويمكن إبرازز أهم تلك الوقائع ب :
آ ـ انقسام كبير في الحزب في سورية، تبدّى بالتحاق أعداد مهمة منه بالناصرية : بالحكم ثم بالاتحاد القومي، فالاتحاد الاشتراكي، ومن هؤلاء قيادات بارزة في مستوى قيادة قطرية، شكلوا لاحقاً تنظيمات وحدوية وناصرية في سورية . ويلاحظ أن معظمهم من المدن، مما أدى إلى ثقل أكبر لأبناء الريف، وبخاصة في "الأقليات" المذهبية الإسلامية، والذي ـ الثقل ـ سيرافقه بتعاظم بعد حركة آذار، ويبرز صارخاً في الجيش بعد سلسلة التسريحات والتصفيات المتعاقبة .
ب ـ من الانقسام أيضاً .. خلاف وصل الطلاق البائن بين الأساتذة الثلاث : عفلق والبيطار مع الحوراني، وعودة الحوراني ـ بالنتيجة ـ إلى تشكيله السابق، قبل الاندماج بالبعث، وتشكيل ما يعرف بحزب الاشتراكيين العرب .
ج ـ انتشار حركات احتجاج وإدانة للقيادة التي أقدمت على الحل تبلورت باليأس عندجد كثيرين، وإقدام آخرين على إنهاض تنظيم مستقل عنها عُرف لاحقاً باسم " القطريين"، وسط أجواء نقدية كبيرة للقيادة التاريخية ودورها.. وهو ما سيسهم في الصراعات اللاحقة .
2 ـ لم يكن البعث مؤهلاً للحكم في سورية، فقبلت قيادته تغطية انقلاب عسكري للدخول في مراهنة خطيرة سيدرك فيها الجميع أن المؤسسة العسكرية هي الطرف الفاعل، وأن الصراعات المتلاحقة تعبير عن بعض مظاهر الأزمة العميقة، وأن التصفيات المتلاحقة أحدثت نزيفاً مهماً في الحزب المدني، ورجحاناً كبيراً لأبناء الطائفة العلوية في الجيش ومفاصل الأمن والدولة .
3 ـ معظم العسكريين، وعلى رأسهم الطاغية الأسد، لم يتربوا في مدرسة حزبية تصقلهم وتقولبهم، فكثيرهم سجل نفسه منتسباً للبعث في المرحلة الثانوية ثم التحق بالكلية العسكرية دون أن يعيش حياة حزبية حقيقية، سوى تلك العلاقات بين مجاميع الضباط، والتي كان همّ الانقلابات، والانقلابات المضادة نسغها، أو بعض العلاقات الفردية مع قيادات الحزب التاريخية والتي تلعب فيها عوامل مختلفة يكون الطابع الفردي، والذاتي من أبرزها . وعديدهم حمل معه موروثات وثقافة البيئة التي جاء منها، والتي كانت تظهر في السلوك الباطني، وعند المنعطفات .. وكان الأسد الطاغية أنموذجاً لها بمركباته الطائفية وشهوته الصارخة للحكم التي نجح في تغليفها بالسذاجة، والمَسكنة ونوع من الزهد الكاذب .
4 ـ إن جذر الانقسامات كان يعبر عن واقع الأزمة البنيوية في البعث، وموقع المؤسسة العسكرية في الحكم، وكان بحاجة للتغليف ضمن عناوين أمواج المرحلة التي كان اليمين واليسار أوسعها، ناهيك عن ذهنية تصفية الآلاخخر المختلف معي بالرأي تحت يافطة الثورية، والعنف الثوري.. الأمر الذي أدى إلى شروخات وتصفيات مستمرة أفقدت الحزب مصداقيته، خصوصاً بعد وجود نظامين يحكمان باسمه، كانا الأشد عداء فيما بينهما .
5 ـ للحقيقة الموضوعية أن البعث لا سابقاً، ولا حقاً كان حاكماً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل واجهة قابلة بذلك، أو مُرغمة، أو تبريرية . صحيح أنه كانت هناك محاولات لبناء حزب، ولكي يأخذ دوره.. لكنها لم تنجح واقعياً، وعندما قام الطاغية الأسد بانقلابه التفحيحي وأد ألف باء المشروع ووضعه تحت بسطار ذاتيته، واستبداده، وطائفيته، وعنجهيته لاستخدامه ممسحة.. وصل الاستهتار فيها ليس بذلك الانقلاب الذي داس فيه على كل ما يعتبر شرعية ونظاماً داخلياً وحسب، بل تجويف واجتثاث البعث عمليا بكل تلك التركيبات، ونخره بالأجهزة الأمنية والمخبرين.. حتى أنه لم يتنازل مرة للاجتماع فيما يعرف بالقيادة القومية التي ينصبها .
6 ـ قصة القوميين السوريين المتسللين إلى الحزب ليست جديدة.. فأحد الأصدقاء القدامى، وكان صاحب اختصاص في رصد وجود القوميين السوريين بالبعث.. كان يقدم أرقاماً مخيفة عن وجودهم في أماكن حساسة، قبل وبعد السبعين، وعبر بوابة آل الأسد ومخلوف، ولم يك الأمر يتعلق بحق الناس في تغيير مواقعها والانتساب للحزب الحاكم.. بقدر ما بدت الصورة جزءاً من ترتيبات مشبوهة كان الأثر الطائفي واضحاً فيها .
7 ـ وريث الحقد والعته : بشار الأسد مستعد للذهاب أكثر من الحديث عن أمة سورية ومغازيها وخلفياتها إذا ما حشر وضاقت به سبل السيطرة على كل سورية، ولا غرو أن يخرج بإبداعات جديدة طالما كان مغرماً بها.. عن أمة مذهبية، وما شابهها ..مع الأخذ بالاعتبار النقطة التي أشار إليها الأستاذ صالح القلاب والخاصة بمدى تأثره ببيئته، وتربية والدته المعروفة أنها قومية سورية، وأخواله من آل مخلوف فالتشوّه الذهني، وعقد التملك والسيطرة،والبنية الإجرامية التي تستهين بحياة البشر وتتعامل معهم كحشرات، وحشرات ضارة عند اللزوم.. يمكن أن تتفتق عن كل هوسها وقت الضرورة. وفيما يخص البعث والإيمان به.. فإن كان الطاغية الأب غير مؤمن به إلا واجهة وممسحة وستارة.. فالابن الذي انتسب لحكم العائلة أكثر احتقاراً له في الجوهر، خاصة وأن ذلك البعث الذي يحكمون باسمه ليس أكثر من خرقة بالية مليئة بالثقوب والعيوب..والرخاوة والانتهازية..
8 ـ البعث مجتث فعلاً من زمان، ولهذا وبالوقت الذي ترفض فيه الثورة السورية، وقوى المعارضة ـ بمعظمها ـ فكرة الاجتثاث لمنافاتها مع الديمقراطية وحرية الرأي والاعتقاد لجميع المواطنين.. فإن ما جاء في " وثيقة المرحلة الانتقالية" التي اتفقت عليها القوى السورية في " مؤتمر المعارضة بالقاهرة" نصّت على حل، وليس اجتثاث، تنظيم البعث القائم ومصادرة مقاره وممتلكاته باعتبارها ملكاً للدولة والشعب، وحرية أن يقوم هؤلاء البعثيين بتشكيل سياسي يختارون اسمه وفقاً لقانون الأحزاب الذي سيصدر لاحقاً .