فرز القوى..

قاعدة الحسابات السياسية...

زهير سالم*

[email protected]

يعتبر فرز القوى لمعرفة المع والضد، والبين بين، ومعرفة الظاهر والباطن في المواقف السياسية؛ قاعدة أساسية في العمل السياسي. إنها أشبه بحساب الصندوق اليومي الذي يجريه التاجر كل يوم. ليعرف الصادر والوارد، وما كان له وما كان عليه.

وفرز القوى عملية ذات ديمومة تتبع المستجد والمتغير في عالم لا يكاد يثبت فيه شيء. بل إن متابعة المتغير من المواقف هو في إحدى صوره طريقة لحساب نتائج الجهد المبذول لكسب الأصدقاء وتحييد الخصوم. ومحاصرة الخصوم ، ومحاربة الأعداء ، ثم نتساءل : ماذا تغير في موقف الآخر بعد حملة من التواصل، والشرح والوعد أو الوعيد والمناجزة ؟!

وإذا كان تكثير الأصدقاء وتقليل الخصوم والأعداء هدفا دائما للسياسي ، فإن الإغضاء والتجاهل والتجاوز ليس هو دائما الطريق إلى الموقع الأفضل . الطريق إلى الموقع الأفضل يكون غالبا بالتعبير عما تريد أو تتحسس وكما علمنا رسول الله أن نقول لمن نحب إننا نحبك فإن علينا أن نتعلم من سواد رضي الله عنه : يا رسول الله أوجعتني . ..

وفي عالم تم فيه فصل الدولة عن الدين ، بمعنى فصل الأخلاقي عن السياسي ؛ فإن الانطلاق من المعطيات الأدبية والأخلاقية في حساب المواقف سيوقع صاحبه في كثير من الخلل. هذا الخلل الذي يقع فيه الساذجون ، وأصحاب النيات الطيبة. وفي عالم الدبلوماسية تنتشر الابتسامات الاصطناعية والبلاستيكية المركبة، كما تنتشر أحاديث المداهنة ، وادعاءات الرياء ، والعناوين الفضفاضة التي تخفي وراءها من المكر الشيء الكثير .

منذ الزمان الأول أدرك الحكيم العربي الفرق بين الغباء والتغابي:

ليس الغبي سيدا في قومه... ولكن سيد قومه المتغابي

وقد يقتضي الموقف أن تقبل موقفا وأنت غير راض به، وقد يقتضي الموقف أن تتظاهر أنك مقتنع بما يقول من يماريك وأنت عائد من المورد الذي يريد أخذك إليه ؛ ليبقى تحديد الموقف وفرز القوى، واختيار الطريقة الأمثل للتعامل مع ما يُلقى إليك نابعة من ظرف سياسي يتحكم هو الآخر في صاحبه.

وحين يقبل أخ أو صاحب لك أن يقضي في أمرك دون أن يكلف نفسه حتى الاستماع إليك كما يفعل الخصم المنصف والعدو العاقل فإن تمسكك بأخوته أو بصحبته يصبح نوعا من المداهنة التي لا تليق بإنسان يملك ما يكفي من احترام الذات ...

في تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم  لقوله تعالى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ... ) يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أحدهم كان ينهى صاحبه فلا ينتهي ويأمره فلا يأتمر ولا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه ..

السؤال المحير كيف يمكن للمرء السكوت عمن يجعل أكيله وشريبه من قتل ولده وانتهك عرضه ثم يعتبره صديقا وأخا فيحالف حليفه ويجالس جليسه ويؤاكل أكيله ويشارب حتى السكر شريبه؟ !!!

المواقف الرجراجة ، والنص النص ، و(المعضد )، تمثل كلها قصور عن إعطاء الموقف السياسي حقه . والعامة في بلادنا تقول ( يا رب اشرقني بريقي لأعرف عدوي من صديقي ) . معرفة العدو من الصديق ليست فقط ضرورية على صعيد المعرفة ، بل لعل الإعلان عن عداوة صديق موهوم يكسبك صداقة عدوه صداقة تعتد بها وتستفيد منها ..

وما أروع ما قال أبو الطيب :

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا     ألا تفارقهم فالراحلون هم

نعم هذه هي الحقيقة ولأن أعراضنا ليست هينة ولأن دماءنا ليست رخيصة فالراحلون هم ويجب أن نرحل أو أن نجعلهم يرحلون ...

               

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية