حاجة الثورة لخريطة طريق واقعية
عقاب يحيى
الآن، والثورة تدخل شهرها الخامس عشر بعد أيام يعود السؤال الكبير إلى الأذهان بقوة : ما هو السبيل للانتصار وإسقاط النظام، وتحقيق الأهداف؟؟، وهل امتلكت الثورة، والمعارضة القديمة والجديدة والمتوالدة خريطة طريق عملية تلتزمم بها، وتسعى لتجسيدها.. أم أن العفوية هي النهج الاضطراري الذي سلكته الثورة، وفي المقدمة من ذلك وضعها في موقع ردّ الفعل على فعل مبرمج من النظام دفعها، ويدفعها إلى فقدان المبادرة، وربما الوقوع في شراكه وما خطط له لتصبح أسيرة ذلك، تتصرف عبره بحكم الضرورة، وموجبات الاستمرار دون أن تمتلك مبادراتها، ورؤييتها، وخريطة طريقها ؟؟؟.....
بعض الشباب المتحمس يحلو له وصف الثورة بالعفوية، والعفوية المقصودة هنا ليس اندلاع الثورة خلافاً لتوقعات قوى المعارضة بالجملة والمفرق وحسب، بل في تعدد وشكل قياداتها وما أفرزته من أشكال تنظيمية : التنسيقيات الكثيرة، فشبه المنتظمة في عدة عناوين، وأخرى تتخذ عديد المسميات والأوضاع، وأن هذه العفوية حصانها الرابح، وميزتها الخاصة التي منعت النظام من الإجهاز عليها لأنه لم يقدر على كشفها، وملاحقتها وإبادتها .
إن ثورة بعظمة الثورة السورية، وعمقها، واستمرارها، ودوائر تأثيرها، وما أحدثته من متغيرات تتجاوز الشأن السوري إلى العربي والإقليمي والعالمي، يستحيل أن تكون عفوية المنشأ، والخلفية، والأهداف، والنتائج، وذلك بغض النظر عن الحقيقة الساطعة التي يعترف الجميع بها في كونها أحدثت المفاجأة فعلاً لجموع قوى المعارضة والباحثين والمراقبين للوضع السوري بانفجارها على يد جيل جديد من الشباب ظنّ الكثير أنه خارج معادلة الاهتمام بالشأن العام، وبمصير ومستقبل الوطن، والتوق للحرية والكرامة المفقودة، المغتصبة . فهي تتويج لعقود من النضالات المتواصلة التي ضحت فيها أجيال وأجيال متعاقبة في مواجهة الأحادية والاستبداد والفئوية والفساد والإفساد، وتفصيح، وترسيخ مفاهيم الديمقراطية والتعددية وموقعها في أزمة الواقع العربي، وفي المخرج الطبيعي لبناء دولة دكّت حدودها وأقحمت لتكون جزءاً من نظام فردي ـ توريثي ـ عائلي، وهي تواصل لثورات الربيع العربي ومؤثراتها القوية في جيل الشباب الذي فجرها، أو شارك فيها منذ اللحظات الأولى، دون إغفال دور أعداد مهمة من الشباب الذين تواصلوا عبر الشبكات العنكوبوتية والفيسبوك وغيرهما، واسهموا بدور كبير في التحضير لها .
ـ والثورة السورية التي تقارع نظاماً أخطبوطياً في جميع الميادين، ما كان لها أن تكون عفوية الوسائل والأهداف والرؤى والمآلات . صحيح أنها كانت متدرجة من شعارات إصلاحية بسيطة، إلى شعار إسقاط النظام، فالإيغال الواضح إلى الاتفاق الشامل على إنهاء النظام بكل رموزه وأركانه وقواعده وآثاره، ومن ثورة الحرية والكرامة جوهراً، إلى شبه الإجماع على إقامة الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، لكنها وقد شبّت، ونضجت أكثر، ودخلت على خطها : مشاركة أو ركوباً، أو محاولات تبني، ووصاية قوى سياسية لها باعها الطويل في العمل العام.. فإنها كانت، وما تزال مطالبة بوضع خريطة طريق واضحة لها، تلتزم بها : أسساً، ومَرحلة، وطرقاً، وتكتيكات، ومخارج، خاصة فيما يتعلق بأسلوب تحقيق الهدف، ومحورة كل القوى والوسائل في سبيل إنجازه ..كي لا تقع بالبلبة، والتيه، وفي أشراك النظام المنصوبة والتحول من فاعل إلى متلقٍ، ومن مبادر، إلى محاصَر .
ينطلق ذلك من واجب أن تحدد الطريق إلى الهدف وفقاً لترتيب الأولويات، أو تعداد السيناريوهات المحتملة، والمناقلة بينها، وصولاً إلى وضع الردود المسبقة على خطط وتكتيكات النظام الذي انفضحت نواياه ومخططاته الخبيثة منذ الأيام الأولى . وعلى سبيل التحديد : كان يجب وضع الممكنات في جدول ترتيبي والعمل عليها بكل الجهد، حتى إذا ما استنفذ أحدها يمكن الانتقال إلى آخر، وهكذا . وعلى سبيل المثال فإن الخطاب الإعلامي للثورة ممثلة بتنسيقياتها، وبعديد المحسوبين عليها،وبالمجلس الوطني، والقوى المعارضة التي لم تشارك فيه، كان مختلطاً، ومتداخلاً، ومربكاً، ويتصف بالشعارية والعاطفية والاندفاع.. بدءاً من شعارات الحماية الدولية للمدنيين، والممرات الآمنة، والمناطق العازلة، ووقوفاً عند التدخل العسكري الخارجي ومروحة الآمال التي عقدت عليه، ونداءات البعض لاستدعائه دون تبصر لواقعه وآثاره وواقعيته، وصولاً إلى ظاهرة السلاح والتسلح، والجيش السوري الحر، وما عرفته الأشهر الأخيرة من تطورات في هذا الجانب، والاندفاعات، والاختلاطات فيه .
ـ نظام الطغمة الفئوي المشرش أمنياً، القوي بخبراته في هذا الميدان، وبتحالفاته الإقليمية، وخبثه، وحقده الموتور.. أوضح منذ خطاب الرئيس المعتوه في مجلس التهريج نواياه ومخططه عبر محورين : الفتنة والمؤامرة، وبما يعني أنه سيدفع الثورة بكل الوسائل، والممارسات المنوّعة إلى نزع شموليتها، وشعارها البليغ : واحد واحد واحد الشعب السوري واحد، وما يعنيه ذلك من أنها ثورة الشعب السوري بكل أطيافه ومكوناته، المشارك منه فيها، والحيادي، وحتى المجند في مليشيات النظام وحزبه وشبيحته، لأنها ثورة وطن، وثورة حرية لا تعرف الفئوية، ولا يمكن تفصيلها على قد هذه الطائفة أو تلك ...إلى أنها ثورة فئة، أو قلة، أو اتجاهات بعينها، والدفع بهذه المقولة وتعميدها بأعمال منهجة، مرتبة، بما في ذلك بعض الاغتيالات والتصفيات المشبوهة، وتسهيل قيام بعض العمليات كردود فعل تبدو مبررة وطبيعية لكنها تقع ضمن خانة تصنيفه على أنها فعل طائفي موجه ضد آخر طائفي مقابل، والضخ في هذه الأقنية بكل الموبقات، وتوظيف كثير تصريحات وأقوال وفتاوى عقول متخلفة، ومشبوهة تصبّ في طاحونته وهي تريد أن تعمق شرخ الاقتتال العمودي، وتصوير الثورة على أنها رد فعل سني على فعل إجرامي لطائفة" مارقة" و"زنديقة" وبقية المواصفات التي تمتلئ بها بعض الفضائيات وعقول شيوخ ورجالات محسوبين على أنهم مع الثورة .
ـ نظام الحقد المأزوم والمتفجر إرهاباً وجرائم فظيعة يعمل بكل السبل لحصار الثورة في زاوية الفئوية عبر وسائل كثيرة، بما في ذلك الترويج للحرب الأهلية، وتشجيع ظواهر التسليح الفوضوي، واقتناء السلاح، وحتى ممارسته في الحدود التي يبرمجها، وبدت الثورة وكأنها تنجرّ مرغمة إلى هذا الميدان أمام هول الدمار والقتل والانتهاكات المرعبة، والقذف بفئات طائفية مجرمة وحاقدة وإطلاق يدها في بعض المناطق والقرى، وعبر أعداد كبيرة من الشبيحة والمرتزقة للقتل والنهب والاغتصاب وارتكاب كل الموبقات الموصوفة بأعلى منسوب من الحقد والتمثيل، والنهب، والحرق وغيره.. وتغذية فتيل الثأر عند جيل من الشباب غير متعلم، وربما يكون بعضه مخترقاً، ومجنداً من أجهزة النظام لممارسة رد فعل طائفي يجري اليوم تعميمه على نطاق واسع، واستخدامه للتخويف والتجييش والتشويه .
ـ وعلى جبهة أخرى، وبعيداً عن وعي دقائق لوحة الواقع الدولي، وخلفيات وحسابات ومخططات الدول الكبرى.. استسهل الكثير من الجهات المحسوبة على الثورة إطلاق شعارات التدخل الخارجي كمخرج وحيد يصل حد الرجاء والاستغاثة، والبعض توهم، وأوهم الآخرين أنه قادم، وفي الجيب، ولا ينتظر سوى تلك التصريحات غير المسؤولة، وغير الدقيقة، في حين أثبتت تجارب الشعوب كلها، ويوميات الثورة السورية المضمّخة بالشهداء والتضحيات أن ذلك الخارج إذا ما قرر التدخل العسكري يوماً : بالشكل والتوقيت والعمق والمآل.. فإنه بالتأكيد لن يستشير، أو يأخذ رأي هؤلاء الصارخين، أو يحترم خلفياتهم ـ مهما كانت، وأن له أجنداته الخاصة ومراميه المعروفة، وأن الدم السوري الغزير لا يحرك ساكنه طالما أن الشروط التي يعتبرها واجبة لتدخله لم تتوفر بعد .
ـ في الجبهة الثالثة : الداخلية الخاصة بتطورات الثورة من سلمية إلى مسلحة، وما بينهما من مقدمات وموجبات.. فبقدر ما بدت هذه التطورات طبيعية، كتحصيل حاصل فعل إجرامي للنظام، وما ينتجه ذلك من حق البشر الطبيعي في الدفاع عن النفس والشرف والملكية، وولادة ظاهرة الذين أبوا توجيه سلاحهم إلى صدور أهلهم من العسكريين الوطنيين الشرفاء، وصولاً لولادة الجيش السوري الحر.. بقدر ما كان نظام الطغمة الفئوي يدفع إلى نشر وانتشار السلاح كي ينقل معركته الوجودية من معركة مع شعب يثور مطالباً بحريته وكرامته، إلى " معركة حربية مع عصابات مسلحة" أو مجاميع ذات طابع عسكري..الأمر الذي فتح الأبواب لأشكال، وجهات عديدة دخلت على الخط باسم الدفاع عن الشعب السوري وحقه، حتى بات التسليح الظاهرة الأعم والأكثر جاذبية، وحضوراً على أصعدة، وأجندات مختلفة، وبما يطرح أسئلة كثيرة عن واقع ومستقبل هذه الظاهرة، وموقع ما يجري من مخططات النظام ونجاحه ـ إلى هذه المسافة أو تلك، في جرجرة الثورة إلى الخنادق والمعازل التي يريد، وما يعانيه الجيش السوري الحر ـ واقعاً ـ من تعدد فرق المسلحين، وصعوبات الضبط، ووضع هؤلاء تحت قيادته ووفق إطار موحد .
ـ اليوم يبشر النظام، ومعه أبواق وأوساط كثيرة بالدخول إلى الحرب الأهلية، التي يعتبرها البعض أمراً قائما، والتي تمنح طغمة الإجرام مبررات للذبح، والتدمير، وتحويل الثورة إلى عمل بصبغة معينة، وبوسائل عنفية وحيدة.. الأمر الذي يستوجب ضبط وتنظيم عمليات السلاح، وإيقاف ومحاربة الفوضى وأصحاب الأجندات الخاصة، وتقوية موقع ودور وفعالية الجيش السوري الحر ليكون الذراع الوحيدة للثورة، ووفق مهمات محددة، وعلاقات واضحة بالثورة .
ـ إن فقدان، أو ضعف وضوح خريطة طريق للثورة ـ سابقاً، والآن، تحدد الوسائل والقوى، والتكتيكات، والسيناريوهات والمخارج.. تقود إلى متاهات خطيرة يعمل نظام الإجرام على الاستفادة منها لخنق الثورة، وتشتيت قواها، ورؤاها، ووسائلها، وصفوفها . كما أن تشتت المعارضة وتوهانها بين تخوم المراهنات، والحسابات الخلبية، والآمال الواهية على إمكانية نجاح مبادرة عنان، أو أحلام التدخل العسكري الخارجي ـ عند البعض ـ يزيد الوضع تعقيداً، واختلاطاً.. مما يستوجب الانتقال من التشاطر، والتسابق على إحراز مكاسب ذاتية لهذا الفريق أو تلك الهيئة، غلى وضع خريطة طريق تحدد المشتركات، وهي كثيرة، انطلاقاً من قاعدة ثابتة رئيس : إسقاط النظام كهدف الأهداف للانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية. وعلى ذلك فإن النوايا المتناوبة عن عزم الجامعة العربية على " عقد مؤتمر للمعارضة" (طال أمده، وامتطت مواعيده) ربما يكون مناسبة للاتفاق على وضع تلك الخارطة والتزام كل الأطراف بها حتى وإن كان أمر توحيد المعارضة إعجازياً من خلال صيغ التنسيق الممكنة، وعمل كل طرف على تحقيق الهدف الواحد بالوسائل الأنسب، والأقصر، والأقل خسائراً بشرية، وضرراً على بلادنا ومسيرة الثورة ومآلها ..