ما زال اللاستبداد يعلق المشانق للأحرار
ما زال اللاستبداد يعلق المشانق للأحرار
عقاب يحيى
في السادس من أيار عام 1916 أعدم جمال باشا، الملقب بالسفاح، كوكبة من رواد النهوض في دمشق وبيروت.. ليصبح هذا اليوم عيداً للشهداء..
كانوا أعلام حرية وتحرر من السيطرة العثمانية، يحملون حلم وحدة الأمة وانعتاقها وتحررها وتقدمها.. وتخلصها من التخلف والجهل وفعل القرون المليئة بالتجهيل والتخثر والتراجع .
كوكبة تضم معظم الأطياف السورية واللبنانية، وفيهم عدد من أصول جزائرية، بتلاحم لم يكن يعرف أسئلة هذه الأيام عن الأصل والفصل والعرق والدين والمذهب .
ـ معظمهم كانوا نخبة المثقفين الذين أسهموا في إحياء اللغة العربية، ومفهوم الأمة التي طوعها الاحتلال العثماني قروناًُ وغيّبها عن الحضور والفعل. ومعظمهم لمم يكن من عشاق الانفصال عن تركيا ـ بداية ... فقد ناضلوا طويلاً، وبذلوا كل الجهود والمحاولات لتحسين أوضاع العرب في السلطنة، وضخّ بعض الهواء الجديد في بنيانها المتكلس، المتهاوي، وتلقوا وعوداً كبيرة من " حلفائهم" (الحزب الطوراني) وهو في المعارضة، وتحالفوا معه، وحين وصل نسف كل الاتفاقات وبعض الإصلاحات التي قام بها السلطان عبد الحميد مجبراً . أكثر من ذلك مارسوا عنصرية فجة.. كانت أحد الأسباب الهامة للانتقال بالمطالب من الإصلاح إلى الاستقلال. ومن العمل السلمي إلى الثورة ..
ـ وجد هؤلاء الميامين في الشريف حسين واجهة مناسبة، فالتفوا حوله، والشريف حسين سلسل الدوحة الهاشمية، المُبعد في الآستانة، تواق ليسهم بدور كبير .. خاصة وأحلام عودته شريفاً لمكة ، ثم إعادته.. جعلته أكثر لهفة للتمسك بشعار" وحدة العرب" في مملكة عربية واحدة تضم الشام والعراق وبلاد نجد والحجاز ..
ـ وحين التقط الإنكليز نبض هؤلاء الرواد، وأيقنوا أن الثورة العربية قادمة.. مدوا لها أخطبوطهم وعوداً مغرية، وأوهام اتفاقات مكتوبة فيما يعرف ب"محادثات الشريف ـ مكماهون".. كانوا الأكثر خبثاً، وغدراً، ولؤما.. إذ وهم يغدقون الوعود كانت خرائط التقسيم بينهم وبين الفرنسيين والروس على الطاولة، ومبضع القص، والاغتصاب والاحتلال يدخل عميقاً في الآمال، والجغرافيا العربية...
ـ وفي حين تكاتبوا مع الشريف عن المملكة العربية وحدودها، ووافق معهم ـ بعد تردد، وبعد تحذيرات مهمة واستشرافية من معظم أولئك الرواد العرب الذين أعدم بعضهم، وأسهم قسم كبير منهم في الثورة العربية الكبرى.. كان اتفاقهم ناجزاً مع الفرنسيين والروس والحركة الصهيونية، وقد امتلأت الخرائط باللون الأحمر والرمادي والأزرق.. وأهم ذلك : تكريس التجزئة وطعن الحلم بفصل الشام عن العراق، ونجد عن الحجاز، وتقسيم بلاد الشام بإخضاعها للاستعمارين البريطاني والفرنسي.. وثالثة الأثافي تمثلت باعتصاب فلسطين و" جعلها وطناً قومياً لليهود"..
ـ كثيرة حيثيات ودروس الثورة العربية وكيف طعنت، ومستوى رخاوة بعض زعامتها، وموقع بدوية وبساطة الشريف حسين في الاتفاقات والنتائج، ودور الرهان على الخارج، وتوهيم الآخرين بصدق النوايا البريطانية والوعود المحكية.. وما أشبه اليوم بالأمس ..
ـ حين تمّ إعدام تلك الكوكبة.. وكان الأمير فيصل(ملك سورية والعراق لاحقاً) في بيروت، وقد حاول بكل ما يقدر إنقاذ أعناقهم من حبل المشنقة.. وعندما رفض السفاح .. وعلقت المشانق، ونفّذت الجريمة.. صاح قولته الشهيرة بعد أن رمى بعقاله على الأرض : " طاب الموت يا عرب".. لتنطلق بذلك شرارة الثورة العربية المطعونة .
ـ وكعديد المراهنين اليوم على التدخل الخارجي وتبريره وتسويقه تحت هذا السبب وتلك الضرورة، وكعديد الواهمين المنظرين للواقعية، ولغة المصالح، وتقاطعها في نقطة معينة، وحاجة الثورة السورية لحلفاء من مستوى قوى عظمى، ولدرجة طلب تدخلهم.. كان (الأمير عبد الله ـ نجل الشريف حسين، وأمير بلاد، أو إمارة شرقي الأردن) متحمساً جداً للتعاون والتحالف مع الإنكليز بمسوغات وتبريرات تقارب ما يسوّق هذه الأيام من موجبات تصل الضرورات عند أصحابها، ونجح في إقناع والده المتردد، وأخيه فيصل الحذر، متجاوزاً تنبيهات الحركة العربية التي يقودها أولئك الرواد الذين أعدم السفاح بعضهم..بل إن السذاجة، وما هو أكبر منها وصلت بالشريف أن يضرب عرض الحائط عندما وصلته الوثائق الحقيقية لاتفاقات الإنكليز والفرنسيين والروس فيما يعرف ب"تركة الرجل المريض" والتي نشرها لينين بعد انتصار الثورة البلشفية(أكتوبر 1917)، كما لم يستمع لتحذيرات جمال باشا السفاح الذي قام بدوره بنشرها كما هي، وتوضيح خطورتها، خاصة في اغتصاب فلسطين، وموضعة التجزئة، واحتلال تلك البلاد العزيزة ..
ـ سيقول كثير، والثورة السورية في منعطف مهم، أن الزمن غيره، وأن الناس تطورت، ووعت، وفهمت لغة المصالح وطرق التعامل معها، وموازين القوى، وكثير من تنظيرات الهائمين في أوهام تسول الحلول من الغير، بينما يضعف فيهم موقع الاهتمام بالعامل الذاتي : الأساس، والمآلن وواجب دعمه، وتقويته، وتدريعه بكل التكتيك المناسب، والإمكانات المتاحة.. بدل اللهاث خلف آخر يعرف الجميع أن لا شيء يحركه سوى مصالحه، ومخططاته ..
ـ في السادس من أيار ودماء أحلام مشروع النهوض العربي ما ثلة في أعين الوطنيين المخلصين.. ترنو العيون والقلوب إلى ثوار الداخل، حملة الأمل والفعل وهو يجترحون المعجزات، وهم يتأكدون أكثر فأكثر أن شعبهم عمادهم، وأن تطوير الوعي والأداء، وانخراط الشعب بأغلبيته الساحقة، وبمختلف مكوناته القوممية والدينية والمذهبية والسياسية في الثورة.. هو الطريق والمخرج، وهو السبيل الوحيد لاشتلاع نظام الطغمة وتخليص بلادنا العزيزة من كوابيسه وآثامه وجرائمه ...