الاستعانة بالخارج أو الارتهان للخارج

الشيخ نور الدين قره علي

قد يحتدم النزاع ويقوم الجدل بين فقهاء الشريعة حول قضايا جديدة ومصطلحات حديثة ، ويتناولها كل على حسب تصوره ، ويحكم فيها كل على حسب فهمه وإدراكه ،

وللتمثيل على هذا ، ما نقدم للآخرين اليوم من مسألة التدخل الخارجي ، لحل أزمة أمة كالأمة في سورية ، وهي تعاني أزمة تسلط وقهر ، يعذر في التاريخ أن يكون له مثيل في شناعة أساليبه وبشاعة إجرامه ، سفكا للدماء ، واعتداء على الأعراض ، وتنكيلا بالنساء والأطفال ، حتى الزروع والدواجن والدواب ،

ومما يؤلم أن فقيها هناك ، يرى إباحة هذا التدخل الخارجي لرفع هذا الويل - حيث عزّت نُصرة القريب والجار ، وافتقد المعذبون رحمة الأخ الشقيق أو المجاور الرفيق - فأجاز له من أجاز أن يأكل الميتة للحفاظ على حق الحياة ، أو نصرة الخصوم بعودة الروح وحماية الرضيع من الأطفال ،

ويقف الآخر وهو متكئ على أريكة منبره ، تَحشُد له الدولة جمهور الشبيحة لملئ مسجده - الذي هرب رواده من نزق أحكامه - حتى تصح خطبته بأربعين أو أربعمائة من شبيحة النظام الذي ينفخ في قربة أفكاره ومقالته ،

يقف هذا ليبين أحكاما ينتقيها من زمانها ومكانها ، ليوظفها في غير المكان والزمان الذي ذكرت فيه وكان حكمه لأحداثها ، ويقول وبملئ أوداجه : إنه لم يعلم بأن لأمريكا مشايخ اتخذتهم لها في بلادنا ، وإن للموساد من المفاتي ما يمهد  الطريق لمؤامراتها ،

ويزعم وهو العلامة الفهامة ، وفريد دهره ، ووحيد عصره ، بأن الاستعانة بالأجنبي على إطلاقها لا شرعية لها ، ومن طلبها فهو خارج عن الملة ، متآمر على دين ربه ، وعميل صهيوني بامتياز ، ويلغي من حساباته وتقديراته كل الظروف والأحوال والمقاصد والغايات ، ويضع على عينيه غشاوة من تعصبه لنظامه الأسدي ، فلا يرى ولا يتحدث ولا يتكلم عن أحوال أمته التي تتمزّق ، و شعبه الذي يُقتل ، وأبنائه الذين يُذبحون ، ونساء أمته اللواتي يُغتصبن ، وشباب المستقبل الذين تقطع أبدانهم ، بدءا من أعضائهم الجنسية وانتهاء بحناجرهم الصوتية ، وتنقل إليه الأخبار فلا يريد أن يسمعها ، ويهرب من شاشة التلفاز فلا يريد أن يحتوزها ، ويركن إلى غرفة أحلامه ليرى تَبتُّل رؤوس النظام في ليلهم ، وتلاوتهم لآيات ربهم ، وسؤالهم عن أحكام غُسلهم ، أو الترقي في أجواء القرب من بارئهم لحسن نياتهم ، وصفاء سريرتهم ، ونبل مقاصدهم في إرسال قواتهم الأمنية لحماية الأمة من الشباب الطائشين ، والأولاد العابثين ، حثالة الأمم ، ومنتعلي المساجد ، حتى يعود للأمة سكونها وخشوعها وبكاؤها في تراويحها وصباحها ، وإقبالها على دروس مشايخها من أمثاله ،

وهنا تكمن مصيبة هؤلاء ، حيث تناولوا فكرة التدخل الأجنبي ، ولم يفقهوا يوما ، ولم يقرؤوا فيما يقرؤون ، أو يتدبروا ما يدور من حولهم ، وما يحل في أمتهم من ويل وثبور ،

لم يسمع هؤلاء على الإطلاق مسألة الارتهان للأجنبي وما معنى ذلك ، وما حكم الشريعة في ذلك ، فربما لا يعني لديهم شيئا أن تقوم في البلاد اقتصادياتها ،وأن تؤسس في البلاد جامعاتها ، وأن تنتشر في البلاد مساجدها ، وأن تتكاثر في البلاد معاهدها الشرعية ، وان تقوم فيها الصلوات فروضا ونوافل ، وأن نقوم ليلنا ذاكرين ، وأن نختم ألف ختمة تالين ومجودين ، وأن تتبرقع نساؤنا بالخمار تسترا ، وأن نؤسس الجمعيات الخيرية باذلين ومتبرعين ، وأن نعطي الإجازات وننشر المحجبات ، ونطيل اللحى ، ونقصر الجلابيات ، وأن نهز الأصابع ونضم السواعد ، وأن نكوّر العمائم ونحضر الولائم ، وأن ندور في حلق الذكر ، وأن نقيم خميس المشائخ،  وأربعاء المآتم ، وجمعة الكهف فرارا من الزحف الواجب ، لا لجوءا إلى رحمة الرب العادل،

ثم نرتهن كل ذلك بين يدي حاكم ظالم ، يجند كل ذلك بين يدي أسياده من أعداء الخارج ، الذين قايضهم من أجل بقائه على تسليم كل ما ذكرنا لقمة سائغة يمهد لهم من خلالها ما يريدون من نهب الثروات ، وإقامة التوازنات ، حتى لو اضطر أيضا أن يجلب لهم إضافة إلى مساجدنا حسينيات ، وإلى عمائمنا البيضاء لفائف سوداوات ، وإلى فضيلتنا كأرباب شعائر جموعا جاءت من إيران كآيات ،

وأن تمتزج العمائم البيضاء بتلكم العمائم السوداء ، وأن نحاط بالناتو شمالا ، وبالمالكي العظيم مشرقا ، والمجند الوفي لولاية الفقيه مغربا ، وأن يشكل باستغلال كل مقدراتنا الهلال الإرهابي باسم الثورة والتحرير ، نقدم فيه كل مقدراتنا وجهودنا ، وتربيتنا ، ومساجدنا ، ومعاهدنا الشرعية ، ومؤسساتنا الدينية  ، وخلواتنا ودروسنا وتراويحنا ، وبكائنا وخشوعنا ، ليكون دعما لهذا المستأجر حتى يبقى الجندي المخلص ، بكل فكره المتأله المستغل لكل معاني التدين والطائفية والمذهبية ، الذي يخرجنا من سعة التآلف الرائع في وطننا مللا ونحلا وطوائف وعرقيات ، إلى ضيق مطامعه وأنانيته ، ليثبت للعدو الخارجي أنه المخلص الوحيد ، وأن إسرائيل كما جاء على لسان واحد من أسرته ، الذي لا يستقي إلا من بصاق سيده ، بأن أمن إسرائيل مرهون ببقائنا في خدمتكم ، فلا تضيعوا خادما مخلصا من أجل حثالة ومنتعلي مساجد،

أيها الخطيب اللامع الذي هرب تلاميذك من مسجدك ، أقول : ربما لا تجوز صلاة روادها من الشبيحة ، الذين لا تقوم بهم جمعة ولا يفقهون إلا حمايتك ،

وإننا وقبل أن يتكلم فقيه ، وقبل أن يجتهد إمام ، نطالب ـ نحن الذين لا نقبل بعد اليوم اجتهادات فردية  ، ولا أحاديث شخصية في مسألة أمة تُذبح ، وأعراض تُنتهك ـ نطالب أن يجتمع القوم في مجالس أمة ، فيكون العالم الشرعي أحد أفرادها ، والباقي عيون مبصرة للأحداث ، وسياسيون يفقهون الوقائع ، ودراسات ومعلومات تحدد الفرق بين الاستعانة بالخارج و ارتهان الأمور كلها لدولة من الأعداء في الخارج ، وبعد ذلك سنرفعكم إلى المنابر ، منابر الأمة ،      وإلا ........