البطريرك بشارة الراعي ووهم تخوفاته من رحيل الأسد
البطريرك بشارة الراعي
ووهم تخوفاته من رحيل الأسد
محمد فاروق الإمام
[email protected]
شكلت التخوفات التي أطلقها من باريس البطريرك الماروني بشارة الراعي والتي عبر فيها عن تخوفه من "مرحلة انتقالية في سورية قد تشكل تهديدا لمسيحيي الشرق". مبدياً تخوفه من نجاح الثورة السورية وسقوط النظام فيها ورحيل بشار أو تقديمه إلى محكمة مدنية عادلة، شكلت زوبعة في المجتمع اللبناني، فيما لم يهتم بها المجتمع السوري بمسلميه ومسيحييه لأنه غير معني بها.
وكان الراعي أدلى بتصريحات خلال زيارة له إلى فرنسا الأسبوع الماضي حذر فيها من خطر وصول الأصوليين السنة إلى السلطة في سورية، معتبراً أنه كان يجب إعطاء الرئيس السوري "المزيد من الفرص لتنفيذ الإصلاحات السياسية التي بدأها".
كما حذر الراعي في حديثه من أنه إذا وصلت الأمور في سورية إلى "حكم أشد من الحكم الحالي، كحكم الإخوان المسلمين، فإن المسيحيين هناك هم الذين سيدفعون الثمن، سواء أكان قتلاً أم تهجيراً، وها
هي صورة العراق أمام أعيننا، وإذا تغيّر الحكم في سورية وجاء حكم للسنّة فإنهم سيتحالفون مع إخوانهم السنّة في لبنان".
شكلت هذه التخوفات زوبعة وصدمة قاسية في المجتمع اللبناني المسيحي الذي لم يكن يتوقع أن تصدر هذه التصريحات من جانب البطريرك الراعي، إذ اعتاد اللبنانيون أن تنأى البطريركية المارونية بنفسها عن الخوض في المسائل السياسية المباشرة، أو الحديث عن شؤون بلد آخر، وأن تكتفي بالحديث عن العموميات والمبادئ، والدعوة للوحدة الوطنية والتماسك والحكمة.
هذه التصريحات للراعي دفعت العديد من اللبنانيين المسيحيين إلى تسفيه تخوفات الراعي على خلفية توهمه من تداعيات سقوط النظام الحالي في دمشق على وضع الأقلية المسيحية، فقد اعتبر فريد مكاري نائب رئيس مجلس النواب أن الراعي استعدى 70% من المسيحيين في لبنان، وقام بانقلاب موصوف على مسيرة البطريركية المارونية التاريخي، لافتاً إلى أنه يتفهم أن يكون للبطريرك الراعي خوف على المسيحيين، "لكن دفاعه عن نظام قمعي أمر غير مفهوم".
من جانبه قال أمين السر العام للقوات اللبنانية العميد وهبه قاطيشا "إن المسيحيين لا يستطيعون تأييد حكم ظالم يقوم بتقتيل شعبه وينكل بهذا الشكل، وبات متهما بارتكاب مجازر ضد الإنسانية".
واستغرب قاطيشا في حديث للجزيرة نت "أن يطلب الراعي أن يعيش المسيحيون أقلية في ظل حكم الدكتاتوريات، لأن هذا مناف للمسيحية كدين، فنحن لا نستطيع إلا أن نكون في ظل دولة تحترم حقوق الإنسان وتبرز شعاره".
وفي مقال للسيد إلياس الزغبي تحت عنوان (محاججة الراعي) نشر يوم الأحد 11 من الشهر الحالي فند فيه تخوفات الراعي من سقوط النظام السوري الديكتاتوري قائلاً:
(منذ الفتوحات الإسلاميّة وحقبتي الأمويّين والعبّاسيّين، كان المسيحيّون في صلب الدولة وسياسات الأكثريّة، ولم تنزلق الكنيسة إلى اللعبة الخطرة بين أقليّة شيعيّة وأكثريّة سنيّة، ولم يصدر عن رعاتها كلام مثل الكلام الصادر عن الراعي في مسألة تحالف سنّة سورية مع سنّة لبنان في وجه الشيعة، أو مثل القول إنّ المسيحيّين سيدفعون ثمن سقوط الأسد قتلاً وتهجيراً، كما جرى في العراق! (يبدو أنّه لم ينتبه إلى أنّ الحكم العراقي الآن ذو أرجحيّة شيعيّة وانتماء إيراني، وفي ظلّه حلّ
بمسيحيّي العراق ما حلّ).
حتّى في أحلك المراحل، كحقبتي المماليك والعثمانيّين، عرف الموارنة كيف يستفيدون من الأكثريّات وحروبها، كي يوسّعوا دورهم وانتشارهم. ألم تتناهَ إلى أسماع بكركي أصوات تطالب باستعادة المفقود خلال تلك الحقبة، في جبيل وكسروان، وما مسألة لاسا وجوارها سوى تعبير صارخ عنها؟
وفي التاريخ الحديث، عاش المسيحيّون عصرهم الذهبي في سورية قبل حلول حكم البعث "العلماني" وعائلة الأسد "العنصريّة"، فهل هناك من يدلّنا اليوم، ومنذ نصف قرن، إلى فارس خوري آخر، أو حتّى ميشال عفلق آخر؟ أين هو المسيحي القوي في نظام الأسد اليوم، هل هو داود راجحة الذي جاءوا به إلى الدفاع قبل شهرين، فقط لتوريط الأقليّة المسيحيّة في حماية أقليّة أكبر، وفي انتحار النظام؟
إذا كان الخوف من النظام "الأصولي" البديل هو الدافع إلى دعم نظام الأسد، فمن أكّد لبكركي حتميّة هويّته الأصوليّة؟.. هكذا قالوا عن ليبيا وتونس ومصر وسواها، ولم نر أصوليّات مرعبة حلّت هناك محلّ الرؤساء المخلوعين، فلماذا ستكون الأصوليّة الشرّيرة هي الخلف الوحيد للأسد)!
كما كان للجماعة الإسلامية (الإخوان المسلمون) في لبنان موقفاً هو الأعنف على تصريحات البطريرك الراعي التي وجدت نفسها معنية بشكل مباشر، فاعتبرت كلامه "مثيرا للنعرات الطائفية وغير الطائفية، ويفتح الباب لسجالات متبادلة تعود بالضرر على الجميع".
وقال رئيس المكتب السياسي في الجماعة الإسلامية عزام الأيوبي إن "موقف البطريرك الراعي كان غير متوازن، واستند لتحليل غير منطقي، ونحن نخشى أن يكون تحليله قائما على معلومات مغلوطة ساقتها إليه بعض الأطراف في الساحة المسيحية ممن يوالون النظام السوري".
كما أعلن السفير الفرنسي في بيروت "دوني بييتون" أن حكومة بلاده "خاب أملها" من المواقف التي أطلقها الراعي. وأضاف إن "الأحداث الحاصلة في سورية لا تطاق، والنظام السوري وصل إلى طريق مسدود جراء قمع المعارضة بشراسة".
ختاماً أقول للراعي: على هونك فما هكذا تكون مواقف رجال الدين الذين يعرفون قبل غيرهم حرمان القتل وحرمان سفك الدم بغير وجه حق، وهذا ما يفعله النظام السوري بتعليمات وأوامر من بشار الأسد بحق أهل سورية لأنهم تظاهروا بشكل سلمي وحضاري مطالبين بالحرية والكرامة والديمقراطية والدولة المدنية، التي تساوي بين كل أطياف النسيج السوري بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الاعتقاد، وقد أعطي الأسد ستة أشهر من الفرص أزهق فيها أرواح 3000 مواطن سوري كان من بينهم أكثر من مئة
طفل وعشرات النساء ومئات الشيوخ وأكثر من مئة ماتوا تحت التعذيب، واختفى على يد شبيحته ورجال أمنه ما يزيد على 3000 لا يعرف مصيرهم هل هم في عالم الأحياء أم في عالم الأموات، واعتقل ما يزيد على 70000 وهجر إلى دول الجوار ما يزيد على 20000 من بينهم أكثر من ثلاثة آلاف إلى لبنان، وكنا نتمنى منكم موقفاً منصفاً مما يجري في سورية من قمع وسفك للدماء لا خوفاً على المسيحيين في سورية الذين سيكونون بألف خير في دولة القانون والمؤسسات والتعددية والسلم الأهلي والتداول السلمي للسلطة كما هي الحال
في معظم دول العالم إذا ما رحل هذا النظام ورئيسه، الذي قتل اللبنانيين والفلسطينيين قبل السوريين منذ اختطاف حافظ الأسد الحكم والغدر برفاقه في 16 تشرين الثاني عام 1970.
قبل "البعث" الأسدي كان في سورية أكثر من مليوني مسيحي، واليوم، في ظلّ "حامي المسيحيّين"، أصبحوا أقلّ من مليون، فهل هذا يبرّر منح الأسد فرصة من جَيب بكركي، ومن خوّل بكركي توزيع الفرص والحصص على الشعوب والأنظمة العربيّة، ولماذا لم تطالب بفرصة للقذّافي ومبارك وبن علي وصالح.. وربّما نجاد، وسائر دكتاتوريّات الشرق، وأين مصلحة المسيحيّين في الدفاع عن أنظمة قمع آيلة حتماً إلى السقوط؟ أم بتنا نريد الحريّة في لبنان ونستكثرها على السوريّين؟ وهل يُمكن أن يكون لبنان حرّا بدون سوريّا حرّة؟
وهل بات لدى المسيحيّين مركّب خوف من خوض غمار التجدّد وحركة التحرّر، وأصبحت وظيفتهم التبشير لما هو قائم وظالم، خوفا ممّا سيقوم؟