لعنة الدنيا

الانتحار تفجيرا أم الانتحار حرقا؟!

د. حمزة رستناوي*

[email protected]

(1)

أي عالم عربي بائس هذا ! الذي يدفع شبابه للانتحار بتفجير أنفسهم و قتل آخرين , أو كما جرى مؤخرا يدفعهم للانتحار بحرق أنفسهم؟

و أوضّح أنني أستخدم كلمة الانتحار بمعنى " من يقدم على إنهاء حياته عن سبق إصرار" و مجردا عن الحكم الأخلاقي. في كلا الحالتين نحن أمام  احتجاج صارخ على واقع أقل ما يُقال عنه  أنه ليس على ما يرام.

(2)

و سأقدّم مقارنة بين الانتحار تفجيرا على طريقة تنظيم القاعدة, و الذي قد يستهدف جنود احتلال مع احتمالية قتل مدنيين أبرياء تصادف  وجودهم في المكان , أو يستهدف مواطنين و سياح من جنسيات غربية, أو يستهدف مواطنين من أبناء جلدته مخالفين له و يصنّفون ككفرة أو خائنين : شيعة – مسيحيين – زنادقة ..الخ.

و بين الانتحار على طريقة البوعزيزي : ذالك الشاب التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه في  17-ك1 -2011 . احتجاجا  على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد لعربة كان يسترزق منها لبيع الخضار والفواكه، و من ثم شرطية له. و ما تلاها من حوادث "انتحار بطريقة الحرق " في الجزائر و مصر و اليمن خلال الأسابيع الماضية. و سأتجنب قدر الإمكان المقاربات  العقائدية المؤدلجة التي تصنّف الحدث ضمن حالات الانتحار المذموم" إلقاء النفس في التهلكة" أو ضمن سجل البطولة الخالدة مع صعوبة ذلك .

(3)

في حالة الانتحار على طريقة البوعزيزي نحن أمام شكل للعنف الأقصى الموجّه إلى الجسد الأعزل,  ثمة نزعة تدميريّة موجّه إلى الذات , هو عنف يجيء في سياق رد فعل فردي على عنف سياسي و اجتماعي مزمن تقوم به السلطة/ المجتمع / الآخر. و هو عنف ذاتي مُصعَّد موجّه ضد عنف موضوعي قاهر, لدينا معادلة غير متكافئة , هي انتصار للعنف مزدوج , و لكنه عنف يستهدف القضاء على العنف , التضحية بالنفس لإحياء الآخرين, ثمة نزوع خلاصي صوفي صريح, لا يتوافق كثيرا مع الأسس النفسية للايديلوجيا الإسلامية المُستقرّة التي تحتفي بالعنف الموجه تجاه الظالم الآخر, و الذي - مع تحفظات جزئية تختلف بين مرجعية و أخرى -لا يصل لدرجة الانتحار مسبق القصد.

في الانتحار تفجيرا على طريقة القاعدة : ثمة عنف يستهدف الآخر المُعتدي العدو الكافر المحتل , قتل يُواجهُ بالقتل, كراهية ,انتقام,  ثأر . و ثمة خطورة لتوليد حالات من دوائر العنف المجّاني المضاد, حرب أهلية , حروب مزمنة, اضمحلال سلطة الدولة..الخ.

 في الانتحار على طريقة البوعزيزي ثمة عنف يستهدف وقف مسيرة العنف, عنف من الصعب تحمله ,غير قابل للثأر , يستعصي على الكراهية, فهما كان موقفنا من البوعزيزي , و حتى أولئك المتحفظون من وجهة نظر دينية,سيقولون شاب أخطأ الطريق  يرحمه الله قد يلتمسون  له العذر غالبا . و سيصعد البوعزيزي كراهيتنا للظلم, هو موت يُحرِج الظَلَمَة  و المتفرجين كذلك , يضعهم – أي الظلمة- واجها لوجه أمام حقيقتهم, يكشف عارهم , فمن الصعب لمسئول في مؤسسة الظالم أن لا يبرر و لو لنفسه, أن لا يشرح.. أن يبرئ نفسه تماما ًمن دم الضحية .

المُنتحر على طريقة البوعزيزي نتعاطف معه, كون ظروفنا- في الغالب -متشابهة و متشاكلة مع ظروفه,  هو انتحر و دافع عن مطالب غالبا ما تخصّنا و نشترك بها, هو أكثر شجاعة منا .. نحن جبناء أكثر عقلانية تبريرية ربما؟!   

أما في حالة المُنتحر على طريقة القاعدة, فالقتلى غالبا مدنيين, أبرياء, ثمة عدوان"عنف  علينا,و ليس عنف عدوان من أجلنا .

(4)

و ثمة اختلاف آخر : المطالبية في حالة البوعزيزي ذات صبغة إنسانية خاصة: لقمة العيش, باب الرزق ,البطالة,  احترام الكرامة الإنسانية   ..الخ

المطالبية في حالة القاعدة: غالبا ما تكون عقائدية مؤدلجة قضايا كبيرة كونية..الخ

الانتحار هنا  لخدمة "الأمة, الدين" ثمة  تفكير ماهوي شمولي.

(5)

و ردّات الفعل المُتوقعة و تداعيات الانتحار على طريقة القاعدة تكون من قبيل : تفجر عنف طائفي, حروب أهليه كما في العراق , أو قد تستلزم انتقام من مجموعات أو أفراد غير مسئولين عنها لا بل قد يتحفّظون على مشروعيتها,  التمييز ضد المسلمين في الغرب إجراءات المطارات, و زيادة القبضة الأمنية, زيادة التمييز على أسس طائفية , زيادة القمع لشرائح واسعة ,  قد يكون للانتحار على طريقة القاعدة تأثيرات ايجابية في مواجهة قوات الاحتلال كما في النموذج العراقي و قبله اللبناني و لكنها غالبا مع تأثيرات جانبية ضارة تهدد المجتمعات و مشروع  الدولة الوطنية.

(6)

أخيرا إذا كان الانتحاري على طريقة القاعدة  ينتظر الجنة فلماذا ينتظر المنتحر على طريقة  البوعزيزي؟

الانتحار على طريقة القاعدة  حدث قصدي عن سبق إصرار, نتيجته شبه محتومة.

الانتحار على طريقة البوعزيزي: حدث قصدي و لكنه غالبا لا يقصد الموت, فقط لفت الانتباه, و نتيجتُه مترددة بين الموت و المعاناة أو عدم الأذى في حال قام أحدهم بتداركه, انتحار مع نسبة فشل  أكبر .

في نموذج القاعدة الفاعل : عقائدي  يقيني,  ثمة بعد سادي "تعذيب الآخرين قتل الآخرين"  مع مركّب مازوخي سادي حاضر.

في نموذج البوعزيزي الفاعل :  عُصابي قلق, ثمة مسحة عدمية حاضرة.

ثمّة بعد مازوخي أشد حضورا , الحرق كفعل قاس ,ألم مستمر

في الانتحار على طريقة القاعدة الأمر يحتاج إلى تجهيز تكنولوجي, يحتاج لعتاد

بينما في الانتحار على طريقة البوعزيزي : الأمر عفوي و متاح أكثر.

(7)

في الانتحار على طريقة البوعزيزي المُنتحر يناهض الظلم يستشهد أمام الناس في الساحة العامة ,أمام رمزية الظلم :مقر الولاية – مديرية أمن – شرطة – برلمان..الخ , و هو يُشهد الناس على موت العدالة فيهم , لا يقدّم للآخرين مبرر لقتله, يكشف الجانب الإنساني الضميري ,يعرّيه عن كل عطالة, و ينمّي آلية التلقيم الراجع في الإنسان, فلا يوجد عدو يثأر منه سوى من دفعه للانتحار.

أما في الانتحار على طريقة القاعدة فالعدو هو مُمَثّل بشخص , بفكر, و هو انتحار ينمّي آلية التلقيم المضاد الثأر.. الكراهية , "العدو هو من يستهدف قتلي"

المُنتحر على طريقة البوعزيزي يعترف بضعف نفسه ,لا يقدم مبرر للقتل ,يحافظ على شرط اللقاء الإنساني مع الآخر و لو بعد موته.

أما المنتحر على طريقة القاعدة فيستعرض القوة, البطولة, يقضي على شرط القاء الإنساني ,و هذا لا يشمل كل العمليات الانتحارية و لكن معظمها  ,فعندما تكون هذه العلميات مستهدفة لهدف عسكري لاحتلال ..عندها تحافظ على شروط اللقاء الإنساني في حدود معيّنة.

(8)

الانتحار على طريقة البوعزيزي  من الصعب تصنيفه  ضمن المقاومة اللا عنفيه , و إن كانت المقاومة اللا عنفيه تصل في العديد من ممارساتها إلى حد الموت كالإضراب عن الطعام ,أو التصدي لقوات الأمن بالجسد الأعزل , إلا أننا في حالة البوعزيزي أمام عنف مقصود من قبل ,  بينما العنف في حالة المقاوم اللا عنفي هو ضريبة المقاومة و غير مقصود , عنف من الآخر المعتدي نتصدى له , عنف نزع العنف عن الذات و الآخر.

البوعزيزي نموذج فريد من نماذج التضحية بالنفس , فيضان  الخير عن النفس و تصديره كمُعطى رمزي على الآخرين ,الخير مسربلا ً في لبوس العدالة , العدالة  كهدف أسمى , العدالة كقيمة مستلبة  في دائرة الضوء.

البوعزيزي هو إضفاء لمعنى على حياة افتقدت للمعنى, هو اليأس المطلق ,بدون روتوشات , بدون تعزية , أو محسّنات إيمانية ,هو  الشطط في منح فرص الحياة ,هو المراهنة على القيمة , و إعادة بعث القيمة الأخلاقية و لو بعد حين, البوعزيزي هو رهان على الموت , رهان من إنسان طيب , فعل خير عام موجه للآخرين ,المراهنة على قدسية الموت , و كونه الحاجز الأخير في وجه الظلم و الهمجية.

                

* شاعر وكاتب سوري