سقط التوريث .. إلا عندنا

جلال / عقاب يحيى

ـ 1 ـ     

عجيب غريب أمر حكّام الاستبداد العرب كأنهم تخرّجوا من مدرسة واحدة، كأنهم شربوا من عين الاستبداد المكين فما ارتوا أبداً .

تسابقوا وتلاحقوا ليس في الاستدامة عقوداً في الحكم وحسب بكل ما عرفته من قمع وبطش ونهب وإفساد فقط.. بل تكالبوا على الأبدية نهماً لا يتوقّف وعيونهم شاخصة إلى ممالك وإمارات التوريث، ولسان حالهم يقول : " ما في حدا أحسن من حدا"، في دنيا العرب المكلومة، كيف لا وهم القدر، الاستثناء، الفذاذة، ومثلهم أولادهم وأولاد أولادهم، وأخوتهم، وأصهارهم، ونسائهم، وعائلاتهم، وأفخاذهم، وأيديهم ..!!  ..

ـ جميعهم، بلا استثناء، أعدوا الأولاد ليكونوا خلفاءهم، ومن كان ولده صغيراً(كزين العابدين) راح يمدّ في الحكم علّ الصغير يكبر فيفصّل له دستوراً يخصه، وإلا ف" السيدة الأولى" وكومة عائلتها يتكفلون بالإعداد لليوم المطلوب، أو المجيء بالأخوة، وأهل العشيرة والأقارب وفرضهم في المواقع الحسّاسة .

ـ الغريب أيضاً أنهم جميعاً " يستندون" إلى أحزاب يدّعون أنها مليونية، وأنها تمثّل خيرة أبناء الشعب، وخلاصة وعيه، ونضاله ومثقفيه(وهم يختلفون بذلك عن إخوانهم في نظم الممالك والإمارة الذين استبدلوا الأحزاب بالعشائر والعائلة)..

وإذ بتلك الأحزاب منخورة، مجوّفة، وإذ بالنخب لا نخب فيها ولا يوجد من يصلح لأن يكون الوارث لهم(بعد عمر طويل)، وإذ بالملايين قطيعاً للتصفيق والتلفيق ..والنهب، والبلطجة والتزويق .

ـ 2 ـ

البعث، كحركة تاريخية تعتبر من أهم الأحزاب القومية، نشأ بالنقيض للاستبداد وأنظمة الحكم الملكي المطلق، وفي تراثه ومقررات مؤتمراته أطنان واضحة عن تضاده للدكتاتورية، والتخلف وإرثه، ونظم الملكية، وتلك التي لا تعبّر عن إرادة الشعب، ولا تأتي نتيجة اختياره الحر .

ـ عندما وصل البعث(بالانقلاب العسكري) إلى السلطة كان شعاره الدائم : محاربة الثالوث المعادي : الإمبريالية والصهيونية والرجعية ، معتبراً أن النظم الملكية عنوان وقاعدة وخلاصة الرجعية، وأنها أنظمة مفروضة على الشعب، وتتآمر على قضاياه الأساسية، وأن تحرير الوطن منها جزء لا يتجزأ من معركة التحرير الشاملة ضد الإمبريالية وكيان الاغتصاب والاستيطان .

ـ أكثر من ذلك، فالاتجاهات اليسارية في البعث ذهبت بعيداً في تحديد ورسم التخوم بين الثورة وأعدائها، معتبرة أن النظم الملكية بؤرة الخبث والتآمر، وعنوان الاستبداد والتخلف والرجعة، وأنها جزء من حلف مكين فأعلنت الحرب عليها بلا هوادة، إلى درجة أن الشعار تعب لكثرة الترداد .

ـ أبداً لم يتصوّر أحد من المؤمنين بصدق ووعي بالبعث، والحركات القومية أن تتحوّل النظم التي تحكم باسمه، وتحت يافطاتها، إلى رمز الاستبداد، والأحادية، والقمع الشمولي، وعنوان انتهاك الحرّيات العامة والخاصة، وعائق التحرر والتقدّم والتحرير، ومشنقة مُفزعة لرموز الحرية، والرأي الآخر، تتفوّق على الجميع في ممالك الرعب، والقضاء على الآخر، وتقدّم أنموذجاً رهيباً يجعل أكثر ممالك الاستبداد أكثر رأفة ورحمة بالشعب، وأقل دموية متأصلة تلاحق الأجنّة، وتطبق على الرقاب والحياة بجيوش جرارة من أجهزة قمع مكلوبة، وبصاصين ينخرون الضمير، ويزرعون الرهبة الفاجعية.. لقتل براعم الحياة، وديمومة أبدية الحاكم .

ـ فكيف بالتوريث ؟؟.. وكيف يتحوّل(( حزب الثورة العربية))، و(( الرائد والقائد، والأحد الواحد)) الذي سيوحّد الأمة من المحيط للخليج، ويحرر فلسطين من النهر إلى البحر، وكافة الأجزاء العربية المغتصبة(من الإسكنرونة إلى عربستان، وصولاً إلى سبتة ومليلة)، ويُدخل الأمة عصر التقدّم والحداثة والاستقلالية والديمقراطية (الشعبية) الكاسحة ؟؟، الماسحة لكل(الديمقراطيات) المزيّفة ؟؟!! ..

كيف يصبح(( حزب الثورة العربية)) بوقاً مبوّقاً تخلو منه الرجال والقيادات فلا يعود فيه أحد مؤهلاً للمنصب الأول إلا القائد الأبدي(إلى الأبد)، ومن ثم أحد أنجاله .. وإلا .. ؟؟ ...

ـ 3 ـ

ليس الوقت مناسباً لفتح الدفاتر القديمة، كما أن الحديث عن التوريث لا يخصّ الموَرث بالتحديد(بغض النظر عمّا له وعليه)، والذي لم يكن يوماً في عير البعث ولا نفيره، وإنما محاولة الإحاطة بتلك العملية(الخارقة)، الاستثناء في التاريخ السوري على العموم، والبعث الحاكم على وجه الخصوص .

ـ نحن أبناء البعث المخلصين مارسنا، بدءاً من أنفسنا، نقداً صارماً لتلك التجربة الأحادية التي انتهت في تشرين الثاني 1970  بانقلاب الأسد الصريح على أعلى مؤسسة حزبية، وإقامة مملكة الاستبداد المكين .

وبقدر ما كنّا أمناء للبعث الذي آمنّا، ولشعبنا وحقوقه في الحريات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتقدّم والكرامة والمساواة(بكل مكوناته وثقافاته وأعراقه ومذاهبه وأطيافه)، ووعينا لماهية الانتماء الحزبي الذي يجب أن يشكل فيه الإنسان الغاية والمآل، بقدر ما كان علينا الخروج من عباءة الزيف، وتهديم أركان الأحادية ونفي الآخر، والفوقية، والوصاية، وديكتاتورية الحزب الواحد المغلفة بالشعارات الكبيرة المخادعة، وتهديم مقولة الحزب الواحد القائد، وولوج ميدان الاعتراف بالآخر على قدم المساواة، والإيمان الذي لا حدود له بالعمل الجماعي، وبالتعددية، والتناوب على السلطة .

نعم كان علينا، بغض النظر عن النجاح والإخفاق، وعمّا واجهناه من متاعب ومآل، أن نقوم بعملية نقد شاملة لفكرنا ومقولاتنا وتجاربنا، وأن نرتقي إلى مستوى إرادة شعبنا، وروح العصر، فنتطهّر من درن تركة الماضي، ونفتح العقل والصدر للحوار مع الآخر دون عصبوية، وذاتية أكلت الكثير منا، ومن إمكاناتنا .

ـ كنا أكثر من يدرك أن نظام الانقلاب(التصحيح) لم يكن تصحيحياً أبدا، وليس له علاقة بالشعارات الفضفاضة التي رفعها(خاصة فكرة الجبهة والانفتاح على الآخرين والشعب)، وأنه يحمل في صلبه جنيناً استبدادياً ذاتوياً مرعباً، وأمراض التخلف التي سيوظفها لصالح نجاحه وبقائه، ناهيك عن جوهر المواقف في الخط السياسي، خاصة ما يتعلق منها بالتسوية، وبالصراع العربي ـ الصهيوني .

ـ لقد حاولنا مراراً بذل الجهد للتخلص من النزعة الثأرية فينا، والتحلي بالموضوعية في تحليلنا لبنية النظام، والموقف منه، والسعي للاعتراف بأن القائم هو شكل ما تحوّلي لاتجاه في البعث(وليس نفي الصفة البعثية عنه ـ كما حال بعض أوساطنا)، وأن البعث في السلطة تشرّذم إلى أحزاب البعث، وأن الذي انتصر جناح مدعوم بقوة العسكر، والأجهزة الأمنية، وبنى التخلف التي سلّمت أهم المفاصل الحيوية، وشعارات الزيف والتعمية والاختلاط . وأن مشروع تحول البعث(الرسمي) إلى حزب ثوري، وشعبي قد دفن في أول يوم للانقلاب، وأن عمليات كبرى للتجريف والتجويف والطمي مورست عليه بتنهيج يفرّغه تماماً، ويحوّله إلى مجرد واجهة للتصفيق، وقاعدة للاستعراض، ومزرعة لبعض الانتهازيين والمرتزقة والمبوّقين، وأنه ضحية، مسلوب الإرادة والقرار، والكثير مضطرّ للبقاء، أو ينتسب إليه حماية، وبحثاً عن وظيفة، ومكان في  بلد تسدّ فيه أجهزة الأمن كل المنافذ ولا يمرّ شخص إلى وظيفة عادية إلا عبر غربالها .

ـ وعندما كان البعض يندهش لفكرة التوريث ويستبعدها تماماً كنا نؤكّد على أن النظام الأحادي الذي هصر الحزب، وقزّم الدولة وفصّلها على قدّ الحاكم، وفعل ما فعل(في كل الميادين) جادّ في تحضير الوريث، وأن المشروع جزء من عقيدة وتكوين الرأس، وقد بدأه بالأخ رفعت، وبجملة الأخوة الذين عاثوا فساداً ونهباً وبلطجة، وأنه عندما أراد (القائد الصغير ـ رفعت) استغلال مرض أخيه والاستفراد بالسلطة.. حصل الخلاف، وبدأت عملية إعداد باسل ليكون خليفة..

ـ مات باسل في تلك الحادثة الغامضة، ولم يكن الدكتور الشاب في وارد التهيئة للوراثة حيث يواصل تخصصه في بريطانيا، ولم يظهر عليه كبير الاهتمام بالشأن السياسي، ناهيك عن الحزبي.. فاستدعي على عجل لبدء التحضير السريع .. وكان الذي كان ..(مفاجأة المفاجآت، وفاتحة عصر التوريث) ..

ـ كان الذي كان في (تدشين) عهد التوريث، واقتراب النظم الجمهورية من الملكية (ألسنا عرباً وأخوة ؟؟ !! )وخروج مصطلح جديد راح يطوف أبراج النظم المسماة ب" الجمهورية"(الجملكية)فمرّ على مصر مبارك، ويمن علي عبد الله صالح، وليبيا القذافي، وسودان البشير، بينما كان زين العابدين يأمل أن يمدّ الله بالعمر ليكبر ولده ، ولم تعد مسألة التوريث تلقى ذلك الاستنكار لدى سماعها : ألم نكن الألى الذين يحق لنظامنا أن يتفاخر فيسجل براءة الاختراع باسمه ؟؟.. ألم نشجّع البقية على السير في هذا الصراط الغرائبي فيصبح مطلب الأحزاب المليونية المرسّمة ؟؟..وضمان الاستقرار والديمومة ؟؟ .

ـ لن ينسى التاريخ تلك الدقائق النزقة، المستعجلة التي تم فيها تهديم مواد الدستور السوري وتفصيله على قدّ الوريث، ولا حقيقة ما يسمى بمجلس الشعب ووجوه أعضائه وتصريحاتهم المألوفة، المكررة، ناهيك عن الذي اسمه حزب البعث الملاييني بآلاف قياداته وإطاراته، وقيادته القومية، وقياداته القطرية وما بينهما وفيهما .. ولا حال(نوّاب الرئيس) ودورهم، وبصمهم على ما رتبّ وفُرض ..

ـ كما لم ينسَ الكثير "خطاب القسم" الذي تهاطلت فيه وعود الإصلاح والتغيير والانفتاح، فصدّق البعض واستبشر بمرحلة جديدة سوّق الكثير لها وهو يلمّع الوعود، وصفات الرئيس الجديد، الشاب، الذي عاش في أوربا، المتفتح، المستوعب لعصر التقنية وثورة المعلومات.. والكثير الكثير من وسائل التجميل والتمرير.. فنام العديد على لهب الانتظار، بينما كانت الإجابة المنطقية على فعل وأسباب التوريث ومعانيه توفّر على هؤلاء ذلك الاستبشار والانتظار، وتؤكد لهم أنهم مخدوعون، وأنهم يراهنون على قبض الريح، وقصف الفوات، وأن الأمر يتجاوز الوعود والنوايا إلى صلب بنية النظام وأركان استمراره، وأنه يستحيل على الوريث أن ينقلب على المورِث، بل أن يقترب من الخطوط الحمر بفتح أي ملف لأن ذلك يعني بداية (الانفلات)، بل والانقلاب على السائد(والبعبع جاهز، والتهم مسجّلة مسبقاً).. لذلك لم نكن يوماً واهمين بقدرة النظام على إحداث إصلاحات سياسية جدّية، وأن أقصى ما يحاول القيام به الالتفاف (إذا ما انزنق) عبر بعض الإجراءات الشكلية المحسوبة التي تبدو حتى الآن أقل من المنتظر بكثير، والتلاعب بالكلمات والمصطلحات، مع استعداد دائم، وجاهز للبطش بأي حركة ديمقراطية، أو مطلبية منذ بدايتها، وترويج الشعبية الكبرى للنظام ورأسه بعديد المظهرات والمظاهرات( آخذين بالاعتبار وجود قاعدة للنظام، وبالقدرة على التحشيد، خاصة في المراحل الأولى لحدوث نوع من المجابهات ) .

ـ 4 ـ

((للأسف الشديد)).. فإن ثورات الشعوب العربية، بدءاً من تونس، ووقوفاً عند مصر الركيزة، ومصر القاطرة والمدحلة، ومروراً بيمن علي عبد الله، وربما القذافي غدا، والحبل على الجرار.. إنما قطعت الطريق على مشاريع التوريث فدفنتها في الحياة .

ـ لقد أكّدت الجماهير في بركان غضبها، وعبر زلزالها المتواصل أنها ترفض : أبداً استمرار هؤلاء الحكام يوماً واحداً، فكيف بأبنائهم وأصهارهم وعائلاتهم ؟؟، وأن التوريث عنوان صفيق للمدى الذي وصله الحكام في استهتارهم لإرادة الشعوب، كوصمة لطبيعتهم، وإدانة لما اقترفوه من جرائم بحق الأمة ومستقبلها .

ـ وطالما أن مشاريع التوريث قد قبرتها الشعوب، ولم تعد قائمة، حتى لو كتبت الحياة لبعض نظم الاستبداد، ولو إلى حين، سيبقى الوضع السوري الحالة النادرة، الفريدة التي قد تصيب الرئيس الذي وجد نفسه رئيساً في حالة من الكآبة، أو الفرادة.. لا ندري .

ـ نقول ذلك وشعبنا الطيّب، المتسامح، الحضاري قادر على تجاوز تلك الحالة الاستثناء، والتعامل مع الأمر الواقع بروحية المصلحة العليا للوطن العزيز .

روحية الوحدة الوطنية الجامعة، ومشاركة الجميع(على قدم المساواة) في صنع حاضرهم ومستقبله، واختيار من يمثله(نواباً، أم رئيساً) في انتخابات حرّة نزيهة ترسي أسس الدولة المدنية الحديثة التي تفتح صدرها لجميع أبنائها، والذي تعيش فيها وتتعايش كافة الأطياف والأديان والقوميات والمذاهب، على قاعدة الاعتراف بحق الآخر في التعبير والرأي والتحزّب والعمل، وفي تعددية يكرّسها الدستور .