متحف الظالمين

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

في إحدى محافظات الوجه البحري ؛ تدافع الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية لمشاهدة مبنى السافاك  ( أقصد مباحث أمن الدولة ) الذي احترق في الثورة المصرية المباركة مؤخرا . كان الناس يتوافدون من القرى والمدن لمشاهدة ذلك المبنى الرهيب  الذي شهد اعتقال أبنائهم وذويهم ، وتعذيبهم في غرف الموت والرعب ، ليس لأنهم سرقوا الوطن أو نهبوه ، أو تلقوا رشاوى بالملايين ، أو أفسدوا في الأرض وفسقوا فيها ، ولكن لأنهم مسلمون ، يقولون ربنا الله ، ويترددون على المساجد ، ويقولون أحيانا : الإسلام هو الحل ، أو يرفضون تسلط الحزب الوطني = حزب السلطة الذي كان يسمى من قبل بالاتحاد الاشتراكي =  وممارسات المنتفعين به من سرقات ونهب وسلب وسطوة ونفوذ...

كتب الناس على ورقة كبيرة بخط بارز عنوان" متحف الظالمين " ؛ وعلقوها على  واجهة المبني الرهيب الكئيب الذي يتوسط المدينة ويحتل مساحة كبيرة ، فكانت الورقة تعبيرا عن دلالة لها من العمق والإيحاء ما يختزل عصرا طويلا من الشر والأذى وضعه النظام البوليسي الفاشي الذي حكم مصر لمدة ستين عاما تقريبا ، ليقتحم البيوت الآمنة في عز الليل للاعتقال والتفتيش والترويع ، والإهانة ، والرعب في البيت والشارع والحي .

الطريف أن الناس عثروا على كثير من بقايا الأوراق المدفونة في الرماد تحمل دلالات من أغرب ما يمكن تخيله ، ومعظمها يدور حول متابعة المساجد والمترددين عليها والأئمة والشباب المتدين في الكليات والمدارس ، وتتناول خطوط سيرهم ، وأماكن لقاءاتهم ، وماذا قالوا ، وماذا أكلوا ، وكيف انصرفوا ، ..إلخ  .

ولم يكن غريبا أن معظم هذه الأوراق كتبها عاملون في المؤسسات المختلفة أو مخبرون سريون شبه أميين ، بعضهم يكتب بالرغبة في الانتقام ممن يتناولهم ، أو بالأمل في مكافأة تقربه من مرءوسيه أو من الضباط أنفسهم ، مما يعني أن كل المؤسسات والإدارات كبرت أو صغرت ؛ تضم مخبرا سريا ينتمي إلى هذه المؤسسة أو تلك الإدارة ، أو السافاك نفسه .

وقد تعجب الناس حين كانوا ينصرفون من متحف الظالمين فيسمعون صراخا وعويلا، مع أنهم كانوا لا يرون أحدا في الداخل ، وعندما استمر الصراخ والعويل تتبعوا المصدر ، فاكتشفوا أقبية تحت الأرض تغص بشباب معتقلين أغلق عليهم الجلادون الأبواب وتركوهم بعد أن هربوا وتركوا أماكنهم !!

هل هذا هو أمن الدولة ؟!

تنشغل إدارات وضباط وجنود ومخبرون سريون بمتابعة المساجد ومن يدخلها ويخرج منها ، وما يقال فيها وعلى منابرها ، وتظن أنها تحمي البلاد والعباد؟

لقد حولوا وزارة الأوقاف مثلا إلى فرع من فروع السافاك ، وجعلوا فضيلة الشيخ وزير الأوقاف جنرالا تابعا لهم ، وقام هو بوظيفة الجنرال ، فأغلق المساجد بعد أداء الصلوات مباشرة ، حتى دورات المياه التي كان يستخدمها العامة والفقراء أغلقها الجنرال حرصا على أمن الدولة ، أما الاعتكاف في ليالي رمضان فقد منعه الجنرال من معظم المساجد ، وطلب ممن يريد الاعتكاف تقديم اسمه وصورة بطاقته إلى أجهزة السافاك كي تنظر هل يسمح له بالاعتكاف أو لا ؟!

وفي الوقت الذي تفتح فيه الكنائس على مدار اليوم والليلة وتمارس كل الأنشطة حتى حفلات الموسيقى ، فإن الفقراء لا يستطيعون إقامة عرس أو حفل عقد قران في مسجد ما ولو كان في أعماق القرى ، ولو حدث وأقام أحدهم بحسن نية حفل عقد القران ، فالويل له ولمن معه !

وقد يسأل بعض الناس : لماذا تفرغ هؤلاء الجلادون لمطاردة الإسلام والتدخل في شئون الجامعات والمدارس والإدارات المختلفة في الدولة حتى الكليات العسكرية والشرطية ، حيث صار من المستحيل ألا يعين شخص فيها ولا يرقى إلا إذا كان بعيدا عن التطرف أي الإسلام ، ولا ينتسب أحد من أقاربه حتى الدرجة السابعة إلى الإسلام ، فضلا عن الإخوان والجماعات الإسلامية .. في زمن عبد الناصر والسادات كان البحث الأمني يتركز حول السلوك الخلقي للشخص ، ومدى ابتعاد أسرته عن السلوك الذي يشين أصحابه اجتماعيا أو خلقيا أو دينيا مثل الإدمان أو تناول المسكرات أو ممارسة الدعارة أو الإلحاد أو نحو ذلك مما يتعارض مع القانون والآداب العامة.. ولكن في النظام الساقط كان البحث يدور حول : هل للشخص ميول إسلامية؟

أي إن الإسلام هو الهدف ، وهو الغاية التي يريد السافاك الوصول إليها لاستئصالها والقضاء عليها .

هل هناك دولة في العالم تحارب دينها الرسمي الذي نص عليه الدستور ؟ إن العدو النازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة يبعث أساطيره الدينية ولغته التي انقرضت قبل أربعة آلاف سنة ، ويعلي من شأنها ويدعو إليها ، ويكافئ من يدرسها ، بل يعطيه امتيازات مثل الإعفاء من التجنيد والمنح الدراسية . ولكن مصر المسلمة تحارب الإسلام والمسلمين ، وتسعى لإلغاء الإسلام تماما .

ما يفعله السافاك المصري ، فعله السافاك التونسي الذي أسقطته ثورة الياسمين في 14 يناير الماضي ، والغريب  أن جهد السافاك التونسي تركز في ملاحقة الإسلام والمسلمين أيضا ، وقد تلقيت عقب انتصار الثورة بعض الوثائق التي تكشف عن كيفية مراقبة بعض العاملين في أجهزة الدولة المختلفة ، وتشير إحدى الوثائق الصادرة مما يسمى الإدارة العامة للأمن الوطني بإقليم مدنين ببنقردن في 3/6/2009م تحت عنوان التقرير الأسبوعي لنتائج عمل الفريق الخاص بمراقبة الأعوان الذين يؤدون الصلاة والمترددين على الجوامع ولا سيما منهم الفئة الشبابية ، وتضمن التقرير أن الرقابة السرية تركزت في الأسبوع الأول من جوان ( يونيه ) 2009 على كل من ناظر الأمن أول ، ورئيس مركز العلاقة مع المواطن بالمنطقة اللذين عرفا بأدائهما للصلاة ومواظبتهما ؛ حيث لوحظ أن الأول يتردد على جامع سيدي عبد القادر لأداء صلاتي المغرب والعشاء خارج أوقات عمله ، في حين يتردد أن المذكور الثاني يؤدي فرائضه الدينية بمنزله . ولم يسجل للمعنيين أي اتصالات مشبوهة أو علاقات مسترابة !

ويلحق بالتقرير جدول متابعة المرتديات الزى الطائفي ( الحجاب ، علما أن المسلمين في تونس يشكلون 99% من عدد السكان ) من زوجات وبنات إطارات الأعوان وشمل هذا الجدول هوية مرتدية الزى الطائفي ، وهوية زوجها أو والدها ، ورتبته وصفته ، والوحدة التابعة له ثم الملاحظات ، ويوقع على التقرير محافظ الشرطة الأول ؛ رئيس منطقة الأمن الوطني ببنقردان : عماد غريبة .. وكان النظام التونسي يفكر في أن يستخدم المصلون بطاقات ممغنطة، يتعاملون بها عند دخول المساجد ، لولا أن قامت قيامة العالم الإسلامي فتوقف مؤقتا ، وجاءت ثورة الياسمين ، لتنسف جهاز الشر ، ومن أقامه ، وتجعله يفر مهزوما مذعورا ! 

هل هذا الأمن الذي يحارب الإسلام ، ويؤذي الناس بالتعذيب والقتل ؛ يخدم الوطن ويحميه ؟ هل صارت الصلاة والحجاب من عوامل تهديد الأمن الوطني ؟ هل ينشغل العالم المتحضر بمراقبة المصلين والأزياء التي يسمونها طائفية ؟ إنه هزل في موضع الجد ، يشير إلى الخلل العقلي والفكري لدي السلطة البوليسية الفاشية !

ولا ريب إن إلغاء مثل هذا السلوك الأمني يمثل ضرورة أولى بعد قيام الثورتين في تونس ومصر ، فقد ولى ضباط السافاك وجنوده الأدبار أمام الثوار ، واحترقت مقارهم وانكشفت فضائحهم ، ولم تحمهم الأحكام العرفية ولا قانون الطوارئ ولا المحاكم الاستثنائية .

يجب إلغاء جهاز أمن الدولة والأمن المركزي الذي كان يتحرك بأوامره وتحويله إلى موقعه الطبيعي في الجيش ، ليكون ضمن سلاح الخدمات الذي يستصلح الأراضي وينشئ القرى الزراعية والمدن الجديدة في المناطق الصحراوية وغير المأهولة .

وتبقى محاكمة الضباط الذين عذبوا وقتلوا في المسالخ التي أقاموها في مقار الجهاز الفاسد المرعب ، على أن تتحول هذه المقار إلى مكتبات شعبية يؤمها الناس من أجل القراءة والمعرفة والثقافة ، ويخصص بعض غرفها لتكون متحفا للظالمين وممارساتهم وآلاتهم وضحاياهم ، فلا يفكر أحد مرة أخرى في استعادة جهاز أمن الدولة الفاجر !