العدالة بمفهوم القاضي في بلادنا
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
القاضي على المنصة الرئيسية , يتوسط المنصة , وعلى جانبيه يجلس اثنان من المساعدين (قاضي اليمين وقاضي الشمال )
وفي الطرف المقابل يجلس المدعي العام
وينادى على أصحاب القضية
يدخل المحامين , ومعهم موكليهم
يقف المدعي أمام القاضي ويروي قصته , مشيراً إلى شخص آخر , مدعيا عليه بجرم قد ارتكبه في حقه , ويطلب من القاضي القصاص العادل
اعترف المدعي عليه بالجريمة
وبعد الاعتراف , حكم القاضي ببراءة المتهم , وتغريم المدعي بتكاليف المحكمة , وتعويض المدعي عليه
اعتراف بدون إكراه , ورضا تام من المعتدى عليه بالحكم المشار إليه من القاضي
لم تكن الجلسة مقنعة , ولم يكن حكم القاضي عادلاً , بما تعني كلمة العدل , وما تعني كلمة قاض
الأدلة موجودة , والقرائن واضحة , والاعتراف سيد الأدلة
والسؤال المحير في أمر كهذا هو:
هل ضرب القاضي بالقوانين الموجودة ونص القانون الذي أمامه عرض الحائط ليحكم , ليحكم بعيداً عن النص , وكيف خرج المتضرر من المحكمة وهو راض عن حكم القاضي , فإن قناعته بالحكم الذي سمعه , كان من المفترض التخلي عن رفع القضية للحاكم أصلا , ولكنه لماذا رفع قضيته , وحضر جلسة المحكمة ووكل محاميا له في القضية ؟
العامة والخاصة , والذين حضروا جلسة النطق بالحكم , حتما كانت تدور في أذهانهم هذه الأسئلة وغيرها , فمنهم من قال , إن المجرم له نفوذ , وكان يغيب عن ذهن المتضرر نفوذه , ولكن اكتشف ذلك في المحكمة فرضي بالحكم
ومنهم من يقول :
قد يكون السبب في ذلك هو التراضي سراً لكي لا تكون فضيحة للمتهم بحيث تؤثر على مستقبله السياسي , أو من تهديد وصل للمجني عليه
والرأي الأكثر تداولاً , هو أن الجاني هدد القاضي أو قدم له رشوة معتبرة
فالمجرم خرج منتصراً بريئاً , بشهادة المحكمة , واستقبل في الخارج استقبال الأبطال والهتاف والتصفيق , بينما المتضرر خرج مكسور الجناح تلفه اللعنات من جميع الجهات , يمشي بحركات بطيئة , مطرق الرأس , يتحاشى في نظره رؤية المحتفلين ببراءة المجرم
كل إنسان بإرادته أو رغما عن إرادته عندما يخلد للراحة بعد يومه المضني , أو العمل التافه والذي أضناه , لابد من أن يمر أمامه شريط ذكريات ذلك اليوم , من متعها وسوءها وتعاستها
فالقاضي عندما جلس في فراشه وجالت بخاطره أحداث اليوم وتوقف , عند القضية والتي حكم ببطلانها رغم أدلتها المادية الواضحة والتي لا تقبل أدنى شك , واعتراف الفاعل , وأنه حكم بعكس ذلك
ودار صراع بينه وبين نفسه , وجرت مناقشات طويلة , وضميره يشده شداً قويا تجاه العدل , بينما عقله يقول عكس ذلك
يقول لنفسه , لم أخرج عن نطاق العرف المعمول فيه الآن ومنذ زمن طويل , ولكن ضميره يقول :
لقد تهت في الرزيلة , وانجرفت وراء السوء والمعصية , وجعلتني أستحي منك وأخجل من وجودي بين أضلاعك , فقلبت الحق باطل والباطل حق , ووضعتني في مرتبة دنيا , في أن تفوقت على نفس المجرم , لأشعر أنني أدنى منه في حقارته بملايين المرات , لأنني أمثل العدل وهو يمثل الجريمة , وأنت شجعت عليها , فالفتنة أكبر وأشد من القتل , ألا تر أن في ذلك فتنة , وطريقة سهلة للجرائم , ومرتكبيها , فليس عندهم حساب من الحاكم . وهم فوق القانون وفوقك أنت أيها القاضي
واشتد الصراع بين الضمير والعقل , ووصل لطريق مسدود فلا العقل اقتنع بالضمير ولا الضمير اقتنع برأي القاضي , ونتيجة هذا الصراع الداخلي العميق , والذي أزعج الرجل ومنعه من النوم , وصاحبه القلق والأرق والسهر , ليعبر لنفسه عن قناعته حتى يستريح من هذا الصراع النفسي ليقول :
إن القانون في بلدي وضعه الأقوياء , والعدالة كلمة رمزية , في صيغتها النصية , فإن كانت العدالة ترمز لصيغة يستفيد منها القوي كانت شعاراً له ومتمسكا فيها , بينما إن كانت العدالة رمزاً ستوقع عقوبة على القوي , تصبح في هذه الحالة , كلمة مجردة , لا لون لها ولا طعم ولا رائحة, ولذلك تكون صفراً في وجودها
ولكن على الضعفاء من الناس تقوم العدالة بكل معانيها , فسكن القاضي وسكن الضمير وغط في نوم عميق , مع أحلام سعيدة في غد بزيادة رصيده المادي في البنوك
وعاد المجني عليه إلى بيته مهموماً حزينا , اجتمع حوله بعض أصحابه يواسونه في مصابه
ولكن فكره كان مشغولاً بأمور كثيرة
هذه الأمور والأفكار التي راودته وتراوده بعد سماع النطق بالحكم ,لم تلج فكره من قبل أبداً , ولم يعيها سابقاً , فهذه القضية قد أيقظت الكثير من حواسه التي كانت تغط في سكون عميق طالت في داخله , مع طول عمره الذي قضاه في هذه الدنيا , وهذا الوطن حتى الآن .
يوجد فرق كبير بين أن تكون قويا , معتمدا على قواك الشخصية , ومتحدة تلك القوة مع القوى الأخرى والموجودة عند الآخرين , إتحاد تلك القوى مع بعضها , تجبر الجميع على أن يكون الحق حق , والباطل باطل
وبين أن تكون تلك القوى مشتتة , تهم كل شخص لوحده , فيها تفرض سيطرة الغاب على الجميع ليكون الحق بيد القوي باطل والباطل بيد القوي حق , والعدالة مطية للقوي , والضعيف يناشد العدالة , ولا من مغيث أو مستجيب
فالقاضي بريء من حكمه الباطل , والمعتدي يستحق هذا الحكم ويستحق التشجيع من المواطنين , وأنا أستحق هذا المصير , لأنني رضيت بذلك من البداية , ورضيت بهذه الحياة , كما رضي بذلك الهاتفون والمحيون للمجرم البريء.