رسالة مفتوحة إلى جمال البنا
أ.د/
جابر قميحةالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وهداك الله ... وهدانا إلى صالح الأعمال، وجعل خير أيامك وأيامنا خواتيمها.
السيد جمال، قد تسألني عن الباعث الذي حدا بي إلى أن أكتب إليك لأول مرة مع تردد نفسي شديد، وأنا أراك تَعرِض ـ كتابة ـ وصوتًا ـ وصورة في المجلات والصحف، والإذاعات ، والتلفاز بقنواته الفضائية والأرضية.. تعرض ما تعرض بكثرة، وكأنك تجادل أو تشحن، بل تتخم ما تبقى من عمرك في هذا الهزيع الأخير منه، بأقصى ما يستطيع. أقول: أنت تعرض ما تعرض، وتَتَعرَّض لما تَـتَعرَّض، وربما كانت هذه الأخيرة من أسباب ترددي في الكتابة إليك.
فأنا أكره أن أرتدي جلباب مهاجم، كما تكره أنت ـ كما أعلنت ـ أن تكون في ثوب أو جلباب الإمام الشهيد.
ولكني أعلن على رءوس القراء أن لك فضلاً كبيرًا، وحسنة، لم تردها ولم تقصد إليها. وهي أنني ما قرأت لك، أو سمعت منك، أو شاهدتك تلفازيًّا إلا وذكرتني ـ قلتُ من حيث لا تقصد ـ بالإمام الشهيد أستاذنا ومعلمنا.
أي والله ـ يا سيد جمال ـ أتذكره.. كأني أراه وهو يرعاك طفلاً لا تتجاوز العاشرة في مدينة الإسماعيلية، وكان سعيدًا جدًّا بك يا جمال، حتى إنه كتب في رسالة أرسلها من الإسماعيلية إلى أبيك الشيخ أحمد عبد الرحمن بالقاهرة، وفيها يقول: "... أما جمال فهو مسرور كل السرور، ولقد أدخلته مدرسة أولية، فهو يتعلم بها، ويحبه أساتذتها، ويكرمونه جدًّا، وكم يكون سروركم عظيمًا إذا سمعتم جمال الدين، وهو يقرأ الأحاديث التي حفظها بتجويد وإتقان، فمثلاً يا معاذ: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، ولتبك على خطيئتك"، وحديث "صِل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك".
****
وتذكر يا سيد جمال أنك أهديت إليّ كتابك "نحو فقه جديد" . وأقمنا في قاعة مجلة آفاق عربية ندوة لمناقشته، حضرها عدد كبير من الشباب، والمفكرين، والأدباء. وكان المناقشون الدكتور يحيى إسماعيل، والدكتور إبراهيم عوض، وكاتب هذه السطور، وفوجئنا بأحمد صبحي منصور يحضر معك، وأنت تعلم جيدًا من هو، وما هو أحمد صبحي منصور!!! ودارت المناقشة .. ولن أعرض ما دار.. أو خلاصة ما دار.. ولكني أقول أنني والله أشفقت عليك.. فقد نقض المناقشون كل ما في الكتاب.. وكنتَ ـ بصراحة ـ غير موفق لا فيما كتبت، ولا فيما به رددت. أما أحمد صحبي منصور فقد أضحك الحاضرين، وهو يهب واقفًا.. ويصرخ بعد مضي نصف ساعة من المناقشة ـ لا.. أنا لا يمكن أشارك في ظل هذا الإرهاب الفكري.. وغادر القاعة ومقر الجريدة. علق الصحفي المعروف مجدي عبد اللطيف على تصرفه هذا بقوله: "هو شاف الجو حامي، وعالي عليه.. فقال لك ألحق نفسي".
****
وعدم التوفيق هذا ذكرني أيضًا بالإمام الشهيد الذي ترفض ـ يا سيد جمال ـ أن ترتدي ثوبه.. أو تظهر في جلبابه، والعلاقة هنا هي علاقة الضدية في المسيرة والنتيجة.
أعتقد أنك تذكر كتاب مستقبل الثقافة في مصر الذي كتبه طه حسين، ودعا فيه إلى "تغريب" التعليم والثقافة، ووسائل العيش والحياة. ويحكي الإمام البنا قصته مع هذا الكتاب للأستاذ محمود عبد الحليم، فيذكر أن المسئولين في جمعية الشبان المسلمين أصروا على سماع رأي الإخوان في هذا الكتاب، وخصوصًا بعد أن أعلن طه حسين بوصفه مستشار وزارة المعارف، إصراره على وضع آرائه موضع التنفيذ، وطبع المسئولون في جمعية الشبان المسلمين الدعوات لحضور محاضرة يلقيها الأستاذ المرشد عن كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" بعد خمسة أيام، ولم يكن الأستاذ البنا قد قرأ الكتاب، ولم يجد وقتًا يخصصه لقراءة الكتاب إلا فترة ركوبه الترام في الصباح إلى مدرسته، وفترة رجوعها منها، وكان يضع علامات بالقلم الرصاص على فقرات معينة، ولم تمض الأيام الخمسة حتى استوعب الكتاب كله.
يقول الأستاذ البنا: وفي الموعد المحدد ذهبت إلى دار الشبان فوجدتها ـ على غير عادتها ـ غاصة، والحاضرون هم رجال العلم، والأدب، والتربية في مصر.. ووقفت على المنصة، واستفتحت بحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبجانبي الدكتور يحيى الدرديري السكرتير العام للشبان المسلمين، ورأيت الكتاب كله منطبعًا في خاطري بعلاماتي التي كنت علمتها بالقلم الرصاص.
وبدأت أول ما بدأت فقلت إنني لن أنقد هذا الكتاب بكلام من عندي، وإنما سأنقد بعضه ببعضه، وأخذت ـ ملتزمًا بهذا الشرط ـ أذكر العبارة من الكتاب، وأعارضها بعبارة أخرى من نفس الكتاب. ولاحظ الدكتور الدرديري أنني في كل مرة أقول: "يقول الدكتور طه حسين في الكتاب في صفحة كذا.. واقرأ العبارة بنصها أيضًا من خاطري، ثم أقول: ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا.. واقرأ العبارة بنصها أيضًا من خاطري. فاستوقفني الدكتور الدرديري، وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات؛ لأنه قرأ الكتاب، ولم يلاحظ فيه هذا التناقض" وكأنه لم يقرأ العبارات التي يسمعها الآن.
وأحضر له الكتاب، وظل يتابعني، فيجد العبارات لا تنقص حرفًا، ولا تزيد حرفًا، ويجد الصفحات كما أحددها تمامًا، فكاد الدكتور الدرديري يجن، كما ساد الحاضرين جو من الدهشة والذهول، والكل يتجه ـ كلما قرأت من خاطري عبارتين متناقضتين ـ إلى الدكتور الدرديري كأنهم يسألونه: أحقًّا هذه العبارات في الكتاب؟ فيقول الدكتور الدرديري في كل مرة: "تمامًا بالنصوص والصفحات".
وظللت على هذه الوتيرة حتى أنهيت الكتاب كله، وأنهيت المحاضرة، فقام الجميع ـ وفي مقدمتهم الدكتور الدرديري ـ بين معانق ومقبل.
****
وأترك توفيق الإمام الشهيد شقيقكم الذي ترفض أن تكون في جلبابه أو ثوبه، وأعود إلى عدم توفيقكم، ويشدني الحديث عن أحمد صبحي منصور الذي أحضرته معك لتشد به أزرك، وتشركه في أمرك، وانسحب من منتصف المناقشة بحجة أنه لا يستطيع أن يعيش في هذا الإرهاب الفكري.
يا عجبًا يا سيد جمال أن تستعين بأحمد صبحي منصور، وهو صاحب أخلاط شنيعة، وأغلاط فادحة، في حق التاريخ وثوابت الإسلام، ويجد لذة كبرى في المخالفة: ففي توصيفه لجماعة الإخوان المسلمين، يرى أنهم لا يمثلون المسلمين ولا الطوائف السنية، ولا الحنابلة، وإنما ينتسبون إلى "الوهابية"، ويرى أن الملك عبد العزيز آل سعود هو الذي أنشأ جماعة الإخوان المسلمين "كان عبد العزيز قد ضم إليه الحجاز بسيوف الإخوان ومذابحهم، وسيطر على موسم الحج، والحجاج، فانتهزها فرصة لتكوين تنظيمات إخوانية خارج الجزيرة العربية عوضًا عن الإخوان البدو المشاغبين، ولينشر الوهابية في بلاد المسلمين مع التركيز على مصر والهند، وعن طريقه تحولت الجمعية الشرعية في مصر إلى الوهابية، بدلاً عن التصوف، وأنشئت حركة الشبان المسلمين كتنظيم شبه عسكري نبغ فيه حسن البنا، ثم جماعة أنصارالسنة، وهي حركة وهابية خالصة يقودها الشيخ الأزهري حامد الفقي صديق عبد العزيز آل سعود، وفي النهاية أنشئت حركة الإخوان المسلمين بديلاً عن إخوان عبد العزيز وتحمل اسمهم، وكان هدفها المعلن هو التربية الإسلامية، وهدفها المستتر هو الوصول للحكم لإقامة دولة وهابية، إقامة تلك الجمعيات الوهابية في مصر، قام بها اثنان من الشوام هما: رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب.
هذا عن الإخوان المسلمين في مصر. فماذا حدث للإخوان البدو الوهابيين في الجزيرة العربية مع عبد العزيز؟ ثاروا عليه وحاربوه وانتصر عليهم في معركة السبلة سنة 1929م، وبعدها وفي سنة 1932م، أعطى دولته الجديدة اسم أسرته فأصبحت تسمى المملكة العربية السعودية".
والمعروف تاريخيًّا أنه لا علاقة أبدًا بين جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والإخوان في السعودية. وأقول يا سيد جمال: وأجدني مدفوعًا إلى التمثل بقول الشاعر:
والمستجير بعمرو عند كُربتهِ = كالمستجير من الرمضاءِ بالنارِ
****
واقرأ لك يا ـ سيد جمال ـ عدة مقالات في صحيفة "القاهرة" ومعروفٌ أنها حكومية علمانية، كانت المقالات تحت عنوان غريب هو: "الإسلام دين وأمة، لا دين ودولة".
قلت سبحان الله ـ يا سيد جمال ـ وكأنك تتحدث عن متناقضين: أي أن قولنا: الإسلام دين ودولة، يناقض قولنا الإسلام دين وأمة. وإن من حقنا بل من حق الإسلام علينا أن نقول: الإسلام دين وأمة ودولة؛ فلا يمكن أن يكون هناك إسلام بلا أمة، ولا يمكن أن تنتظم الأمة بلا دولة، تجمع صفوفها، وتدير أمورها، وتحميها وتدفع عنها وتأخذ نفسها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وصدق أبو حامد الغزالي إذ قال: "إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هما القطب الأعظم في هذا الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك، إلا يوم التناد".
وهو واجبٌ على جميع الأمة كل بقدر ما يستطيع ولكن الوجوب الأكبرمعصوبٌ برأس الدولة أو الحكومة. ومن الآيات الكريمة قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...) (سورة آل عمران: 110).
ويقول تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65).
وحينما هتف الخوارج: "لا حكم إلا لله" قال الإمام علي: "ويلكم وهل يكون حكم الله في الناس إلا بالرجال".
ومشكلة المسلمين الآن أنهم أمة، أو شعوب تكوِّن أمة، أما الدولة المهيبة، بمعنى القوة الحاكمة، فلا وجود لها.
وأنت تعلم ـ يا سيد جمال ـ أن الإخوان ينظرون إلى الإسلام باعتباره خاتم الأديان، وأكملها ومن شعاراتهم "الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف، وقيادة وجندية، وعمل وعبادة ... إلخ" أي أن هذا يعني أن الإسلام دين جامع شامل، كامل متكامل، أما الأديان السابقة فهي أديان مرحلية جاءت لمهمات معينة محددة. ومن كلمات السيد المسيح: "إنما جئت لأهدي خراف إسرائيل الضالة".
****
وأصبحت ـ يا سيد جمال ـ ضيفا دائمًا على الفضائيات والأرضيات، والسمعيات، ورأيك في الحجاب معروف، وإن دعت إلى مثله نوال السعداوي، وزينب رضوان ـ وكيلة مجلس الشعب ـ وحسين أحمد أمين، وأمينة السعيدة، وغيرهم.
ولكن الشيء العجيب الغريب، بل المذهل، إنك حينما سألك مقدم البرنامج: هل يجوز للمرأة أن تكشف شعرها؟ كانت إجابتك: طبعًا، وإلا هات لي آية في القرآن الكريم تحرم ظهور الشعر.
ما هذا ـ يا سيد جمال ـ ...؟! إن هذا يعني أنك تؤمن بالقرآن وترفض السنة، مصدرًا من مصادر التشريع، شأنك في هذا شأن أحمد صبحي منصور، وسيد القمني، وعبد الفتاح عساكر الذي لا يمل من قوله: إنما نؤمن بالآيات، ونرفض الروايات.
ونراك في مسارك تقول في قناة العربية بتاريخ 9/3/2008م : الحجاب فُـرِض على الإسلام، ولم يفرضه الإسلام، والاختلاط ضروري بين الجنسين؛ لأن الفصل بينهما عملية وحشية، وضد الفطرة الإنسانية.
وقلت: لا يتم الزواج إلا برضاء المرأة، وهي نفسها التي توقع العقد، ولا يوجد شيء اسمه ولي عليها، فهي ليست قاصرًا، المرأة حرة في اختيار زوجها، مهما كان عمرها، ما دامت تتصرف في أموالها وأشيائها، فكيف لا تتصرف في عقد الزوجية الذي يقرر مصير حياتها كله، وأضاف أن مسألة الشهود في الزواج ليست مطلوبة تمامًا، فالغرض منها التوثيق والتأكيد على أن العملية جادة حرصًا على الحقوق والواجبات في حالة الطلاق، أو الموت كالميراث مثلاً، أو نسبة الأولاد، الشهود لتثبيت ذلك، ولم يكن في العصور الإسلامية الأولى لا توثيق ولا شهود، فقد ذهبت امرأة ورجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالا له زوجنا يا رسول الله، فقال للمرأة: هل تقبلين هذا الرجل زوجًا لك، فردت: قبلت يا رسول الله، وسأل السؤال نفسه للرجل فأجابه بالإيجاب، فتم الزواج.
وبخصوص الطلاق قلت: لا يجوز مطلقًا للرجل أن يطلق منفردًا؛ لأنه تزوج بصفة رضائية، ولذلك تقتضي صحة الطلاق رضا الاثنين، واتفاقهما على الانفصال، ولكن أن يقوم الرجل بتخريب بيتها، وتدمير حياتها ويحرمها من أولادها فهذا منتهى الإجرام والظلم، وبالتالي مهما حلف بالطلاق من الصباح حتى المساء فهذا لا يعد طلاقًا، الطلاق يتم باتفاق تتقبله المرأة.
وقلت: يجوز للمرأة أن تؤم الرجال في الصلاة، إذا كانت أكثر علمًا بالقرآن .
****
ومن عجب ـ يا سيد جمال ـ أن تسوي كما صرحت في قناة العربية بتاريخ 2/2/2008م بين الأديان جميعًا، بحجج أوهى من خيط العنكبوت، وترى أن الانتقال بينها بمعنى أن يترك المسلم الإسلام إلى المسيحية، أو اليهودية، أو العكس من حق الإنسان، وليس هناك ما يسمى بالردة أو حد الردة.
وأسألك سؤالاً واحدًا ـ يا سيد جمال ـ فما رأيك إذن في قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران: 19).
وقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85).
****
ومن كوارثـك الفكرية ـ يا سيد جمال ـ ما صرحت به في قناة الساعة الفضائية بجواز تقبيل الشباب للفتيات، معتبرًا أن القبلات بين غير المتزوجين من الشباب والفتيات من الضعف البشري، وتدخل ضمن اللمم في الإسلام، أي الذنوب الصغيرة التي تمحوها الحسنات، ,علينا أن نعترف بالواقع الذي لا يمكن تجاهله في هذا العصر، وهو عدم قدرة الكثيرين من الشباب والفتيات على الزواج في ظل المعروض من المؤثرات الخارجية التي تؤثر على الغريزة الجنسية التي غرسها الله في الإنسان ...
إن تأخر سن الزواج، وارتفاع تكاليفه وانتشار البطالة، هو الذي يؤدي إلى هذه الذنوب الصغيرة كالقبلات.
ومعروف أن السيد جمال لا ولد له ولا بنت، وإلا لسألته: هل ترضى بأن تكون بنتك المراهقة "مبوسة للشباب". ولكن لنترك هذا وأطرح عليه الأسئلة الآتية:
1ـ كيف حكمت على هذا الفعل أنه من قبيل اللمم، دون سند شرعي، حتى لو كان ضعيفًا؟
2ـ وكيف تقول إنه من الصغائر التي سيمحوها الله بالحسنات، هكذا بأسلوب التأكيد، هل اطلعت على علم الله ـ يا سيد جمال ـ؟
3ـ وما رأيك ـ وأمام الظروف الاجتماعية القهارة التي تدفع الشباب إلى مثل هذا ـ أقول: وما رأيك هل تَصْدُق فتواك على ما يحدث في الأتوبيسات؟ تنفيسًا عن ضغط الغريزة؟
4ـ وهل المطلوب من المسلم أن يطوع الدين للمجتمع الذي يعيش فيه، والظروف النفسية التي يعيشها، أم يطوع كل أولئك للدين؟
5ـ وأي شباب هؤلاء الذين تتحدث عنهم ؟ إنه ـ يا سيد جمال ـ الشباب المائع المستهين بالدين والقيم الخلقية. وكثيرٌ جدًا من الشباب ـ وأغلبهم تربوا في مدرسة أخيك الشهيد ـ يتعففون، ويعملون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".
6ـ ومن يضمن أن الشاب سيقف عند حد التقبيل؟ إنه ليس أمامه إلا نتيجة من اثنتين:
أ ـ الأولى: أن يتوقف عند حد التقبيل لا يتعداه، ويكبت شهوته، وفي ذلك ما فيه من تأثيرات سيئة على أعصابه ونفسيته.
ب ـ أن يستكمل عمله بالزنى، والباقي معروف.
وأنقل لك وللقارئ خلاصة رأي لرجل متخصص هو الدكتور عبد الهادي مصباح أستاذ التحاليل الطبية والمناعة بجامعة القاهرة، وقد قام بكتابة رد علمي مبينًا خطورة ما تؤدي إليه القبلات الحميمية بين غير المتزوجين لاعتبارها تمهيدًا للعلاقة الجنسية الكاملة فكتب يقول: "إن القبلة تؤدي إلى الإثارة والهياج الجنسي، والإحساس بالقرب الحميمي، ولا يمكن اعتبارها مجرد تفريغ للكبت أو التنفيس، مشيرًا إلى بحث نشرته مجلة "ساينتفيك أمريكان" عن تأثيرها على العلاقات الجنسية والزوجية، إذ أن هرمون "الأوكسيتوسين" الذي يطلق عليه هرمون الحب، والذي له علاقة وثيقة بالوصول إلى الذروة في العملية الجنسية، يرتفع مستواه بعد القبلة، بينما ينخفض هرمون "الكورتيزول" وهو هرمون الانفعال والتوتر.
وأضاف أن القبلة تحتوي على أكبر عدد من المستقبلات الحسية، التي تتمثل في الجزء الأكبر من مركز الإحساس في المخ، وتفرز سلسلة من الموصلات العصبية والكيميائية والهرمونية التي تنطلق من خلال الملامسة بالشفاه، فتؤدي إلى الإثارة والهياج الجنسي، والإحساس بالقرب الحميمي".
7ـ وكيف فاتك ـ يا سيد جمال ـ التأمل النقي في قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32). وهي الآية الوحيدة في القرآن كله التي نهت عن الزنا. فلم تقل الآية "لا تزنوا" ولكن قالت "ولا تقربوا الزنا". ومقاربة الزنا ليس الزنا نفسه، ولكن هي تعني سلوك السبيل أو القيام بتصرف قد يؤدي إلى الزنا. وحرمت الآية التقرب من الزنا، هذا يسمى (سد الذريعة)، كنهي الله سبحانه وتعالى المسلمين عن سب معبودات الكفار؛ لأن ذلك سيؤدي بالكفار إلى سب معبود المسلمين وهو الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام: 108).
****
وفي النهاية أطرح عليك الكليمات الآتية:
1ـ آمل ألا تعتبر ما ذكرته آنفًا ردًّا على ما أفرزته أنت من آراء، فالرد يحتاج إلى عشرات من الصفحات.
2ـ كنت أتمنى أن تطرح على الناس رأيك، فيما يعيش فيه شعبنا تحت وطأة الغلاء والظلم، والغش والتزوير، والجور، وقانون الطوارئ، ونهب أرض الوطن، وموقف الإسلام من دولة بني الهباش، والأزمات الخانقة التي تقود الناس إلى الانتحار، أو ارتكاب الجرائم البشعة.
3ـ وما زلت أطمع أن أرى فيك من جديد الشفافية، والنقاء، والقيم التي رباك عليها في الإسماعيلية ـ من ثلاثة أرباع قرن ـ الإمام الشهيد، وكان سعيدًا بك حتى إنه كما ذكرت ـ أرسل إلى أبيك من الإسماعيلية يقول فيه: "... أما جمال فهو مسرور كل السرور، ولقد أدخلته مدرسة أولية، فهو يتعلم بها، ويحبه أساتذتها، ويكرمونه جدًّا، وكم يكون سروركم عظيمًا إذا سمعتم جمال الدين، وهو يقرأ الأحاديث التي حفظها بتجويد وإتقان، فمثلاً يا معاذ: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، ولتبك على خطيئتك"، وحديث "صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك".
إنها أمنيات ندعو الله أن يحققها، هداك الله يا جمال... وهدانا جميعًا إلى الجادة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك.