المسلم الضحية
بين محاكم التفتيش الكاثوليكية وزنازين الاستبداد العلمانية
زهير سالم*
وجاءنا الحبر الأعظم يسعى، يحمل معه فيما يقول، بعض همِّنا، أو همَّ بعضنا. همَّ نصارى المشرق الذين تمتد جذورهم عمقاً إلى الناصري، عيسى ابن مريم، عليه السلام، الذي زعم البعض أنه قلّ ناصره..!!
ربما من حق النصارى في المشرق أو من واجبهم أن يطمئنوا الحبر الأعظم أنهم في وطنهم، وبين بني قومهم في خير وعافية. وأنهم هنا لا خوف عليهم إلا مما أشار إلى بعضه الأب عطا الله حنا على قناة الجزيرة، لا خوف عليهم إلا من الاحتلال أو مفرزات الاحتلال في فلسطين أو في العراق..
ومن حق نصارى المشرق وهم ورثة المسيحية من نبعها الصافي الأقرب للحق، أن يقولوا للحبر الأعظم: إن الطعنات التي وُجهت للمسيحية في الغرب ، بل التي وُجهت للدين، وكل الدين لله، هي في ذلك العدوان المثير للاشمئزاز، الذي مارسه ويمارسه كرادلته وأساقفته على أطفال ظنوا أنهم في حمى العفة والطهر فإذا هم فيما يعرف الحبر الأعظم مما نعف عن الإفاضة فيه..
أو ليست الكنيسة الكاثوليكية التي يرعاها الحبر الأعظم هي الأولى بعنايته ورعايته لحماية الانسان الذي هو بنيان الله من رجاله زعموا أنهم وقفوا أنفسهم على خدمة دين الله.
من المؤسف أن نقول للحبر الأعظم، وهو يحمل كراسه لتوزيع الاتهامات، أو للدفاع عمن يظنهم بحاجة إلى نصرته، أنه ينسى أن الفضائح التي جللت كنيسته بغفلة منه ومن سلفه أو بعلم، قد أساءت، ليس إلى الكنيسة والمسيحية فقط، بل إلى موقف الأديان كل الأديان. كما أساءت إلى الموقف الأخلاقي في العالم في مواجهة دعوات الإباحة والانحلال. بألم نتساءل ماذا ترك أدعياء الفضيلة في عالم مفتون لأصحاب الرذيلة من ممارسات.
في قلب نجمة الهلال الخصيب، كما كانوا يقولون، يحل الحبر الأعظم رحباً وسعةً. ونتساءل، ونحن نتتبع خطواته وتصريحاته وهمومه ومخاوفه، عن موقفه الحقيقي؛ موقفه الشخصي، وموقف كنيسته الرسمي، من العدوان على ملايين البشر من المسيحيين والمسلمين واليهود في القرنين السادس عشر والسابع عشر. نتساءل إلى متى ستظل الكنيسة الكاثوليكية ورعاتها ينوؤون بإثم ملايين البشر من الذين قتلتهم الكنيسة، أو باركت قتلهم وعذابهم و فتنهم عن دينهم.
من حقنا ونحن أصحاب الشريعة المظلة الحانية والحامية، والتي قررت منذ ألف وخمس مائة أن (الناس سواسية كأسنان المشط). نلفت نظر، صاحب النظر، إلى مسمى الناس. المجرد عن أي وصف إضافي غير وصف الآدمية الجوهر المكرم . الناس لآدم وآدم من تراب. ونصارى المشرق قبل أن يستلم ابن الخطاب مفاتح بيت المقدس، وبعد أن استلمها من الراهب (صفرنيوس) مازالوا يعيشون السواء في أوطانهم على (حقيقة لهم مالنا وعليهم ما علينا..). بينما ما يزال المسلم الضحية بل ما يزال الإنسان الضحية، مسيحياً ومسلماً ويهودياً، ينتظر الذي يتناسى الجرح الثاعب، منذ أربع مائة عام؛ ثم يقلب الثنايا عله يعثر على قملة في حاشية رداء، ينتظر هذا أن يسمع منه كلمة اعتذار ..
وكان من خبر محاكم التفتيش كما يقول التاريخ: أنها سبق إلى إيجادها البابا (أنوسنت) الثالث في العام 1199 لمحاربة (الهراطقة) الملحدين. أي الذين يخرجون على الكنيسة. كانت البداية بحق المسيحيين من القرن الثالث عشر.
وتم تفعيلها بشكل حازم عام 1229. وأعطي المفتشون الحق في إنزال العقوبات الجسدية (التعذيب ـ والجلد) والعقوبات المعنوية: (الحرمان).
واستعملت كل هذه الوسائل ضد المسيحيين كما استعملت ضد المسلمين واليهود 1542. أي منذ أواسط القرن السادس عشر
وبأمر محاكم التفتيش هذه..
تم استئصال المسلمين، جميع المسلمين واليهود، أيضاً من الأندلس فردوسهم المفقود. وكان مسلمو المشرق ومسيحيو المشرق وبلادهم الحمى الحقيقي الذي حفظ وما يزال كل الأديان والعقائد والثقافات..
وبأمر من محاكم التفتيش..
أُحرق الفيلسوف الإيطالي (جيور دانو) حياً، سنة 1600 لأنه قال (بلا نهائية الكون).
وفي سنة 1632 سحب الفلكي غاليلو رأيه عن حركة الأرض وهو راكع على ركبته.
وقدر فيكتور هيغو عام 1850 في الكتاب الأسود عن محاكم التفتيش ضحايا هذه المحاكم بالملايين..
يقول السيد المسيح: ترى القشة في عين أخيك ولا ترى الجذع في عينك. أتمنى على الحبر الأعظم أن يجعلها عظة أحده..
وفي الأثناء يأتينا سهمٌ غَرِب من كامبردج يمن علينا بعلمانية تحمي وحدتنا!!! أكاد أقول لصاحب السهم (حتى أنت يا بروتس!!! ليمت قيصر إذن) علمانية الغرب تحمي تعددنا!! ونحن الذين أسسنا منذ (وثيقة المدينة النبوية) وحمينا كل تنوع نبت من شجرتنا أو آوى إلى ظلها. الغرب الذي يضيق اليوم بمئذنة رشيقة في فضائه، يحمي تعددنا ونحن الذين صلى نصارى نجران في مسجد نبينا منذ ألف وخمس مائة عام!! يزعمون أنهم يعلموننا احترام التعدد وحمايته ونحن الذين حمينا بين ظهرانينا من يقدس رمز الشر حباً فيه أو اتقاء له.
وهذه العلمانية التي يزعم البعض أنها تحمينا من أنفسنا، أليست هي اليوم التي رمتنا بدائها من كامبردج أو من باريس أو من واشنطن، أليست هي التي أجلت عن فلسطين أهلها لتُحل فيها قوما آخرين؟! أليست هي التي تدمر غزة ثم تحاصرها ؟ أو ليست هي التي أعطت الشرعية من المحيط إلى المحيط لمن يمارس علينا في القرن الحادي والعشرين ما مارسته محاكم التفتيش في القرنين السادس عشر والسابع عشر..؟! أليست قذائفها هي التي تقتل أطفالنا في أفغانستان وفي العراق وفي فلسطين.
أليست زنازين الاستبداد التي ذوبت فيها عظام الرجال، وسحقت جماجم المفكرين، وقطعت ألسنة الشعراء الأدباء، وعلق فيها على المشانق رجال الرجال هي زنازين علمانية بامتياز؟!
أليس القادة الذين هانوا واستسلموا وتخاذلوا وفرطوا هم فرسان العلمانية الأشاوس.
أليست محاكم هيثم المالح وطل الملوحي وآيات أحمد وفداء الحوراني ورياض سيف وأحمد طعمة هي نفسها التي جثا بين يديها منذ قرون غاليلو غاليليه يكذب نفسه في قوله أن الأرض تدور.لأن العلمانيين العرب أو من يحكم باسمهم لا يريدون أن يصدقوا أن الأرض تدور.
فرق واحد بين هذه وتلك هو أننا لا نجثو على ركبتين ولا يكذب رائدنا نفسه ولا أهله.
وكان ابن الرواندي الزنديق ألف كتابا سماه ( التاج ) في الطعن على الإسلام وإبطال الشرائع. فقال فيه المعري في رسالة الغفران: وأما تاجه فلا يستحق أن يسمى خفا، وهل تاجه إلا أفٌ وتفٌ وجوربٌ وخفٌ
هل صح قول من الحاكي فنقبله أم كـل ذاك أباطيـل وأسـمار
أمـا العقول فآلـت أنه كـذب والعقل غرس له بالصدق إثمار
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية