مفسدة التخلف في مفسدة التطرف

صعدت بنا إلى الهاوية

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

غزة ذلك الجزؤ من العالم والصغير جدا , وذو الكثافة السكانية الأعلى في العالم , والذي يمارس عليها أشد أنواع التطرف وأقساها , وهذا التطرف جعل المكتوون بناره لم يعد مقتصرا على أهل غزة وإنما تجاوزها ليصيب دعاة السلام والمحبة , في العدوان الغادر من قبل أشد الناس تطرفا , هم اليهود وعلى مرور تاريخهم الطويل المملوؤ بالحقد والكراهية لجميع الشعوب , وبعد هذه الجريمة البشعة يطل ذلك المسؤول الصهيوني ليقول : (دالي أيالون) نائب وزير الخارجية الصهيوني هذا الصباح: إنهم في سبيل تنفيذ قراراتهم، لا يهمّهم أحد، ولا يهمّهم شيء، في إشارةٍ مباشرةٍ إلى الموقف الدوليّ وللرأي العام الإنساني.

عُرف التطرف في لغة العرب بأنه مجاوزة الحد والخروج عن القصد في أي شيء.فالذي يعنيني من التطرف هنا :

أن التطرف هو مفسدة بحد ذاتها , كانت ومازالت مسلكا كاملا للحكام والأنظمة العربية , لينعكس ذلك المسلك المتطرف على الشعوب , والذي كان نتيجته :

التدهور المستمر والتقهقر للوصول لحافة الهاوية

لقد سيطرت الأنظمة بمفهومها الإقصائي والإستبدادي على مصادرة الرأي الآخر , لتسلك سلوكا متطرفا , مبتعدة بذلك عن الإعتدال والتسامح لتقف عند الحد النهائي لخط التطرف

يعرف الجابري رحمه الله  (التسامح) الذي تكاد تجمع عليه قواميس اللغة ومعاجم الفلسفة والذي يقدم التسامح، بمعناه الأخلاقي، على أنه : (موقف فكري وعملي قوامه تقبل المواقف الفكرية والعملية التي تصدر من الغير، سواء كانت موافقة أم مخالفة لمواقفنا). وبعبارة مختصرة : (التسامح هو احترام الموقف المخالف )

فعالمنا العربي يعيش ذلك الصراع بين عدم التسامح من قبل الأنظمة الحاكمة , وبين الرأي الآخر المخالف , سياسة التطرف والإقصاء وعدم التسامح وطول المدة الزمنية , ولدت في الطرف المقابل سياسة متطرفة ومتنوعة  , التطرف العقدي , والتطرف السياسي , والإثني , والعرقي ليتشتت الطرف المقابل لمذاهب وسياسات شتى , وكل مجموعة فكرية أو سياسية , أو تجمع حزبي , أو عرقي أوديني

كان المنهج المتبع عنده هو :

التطرف الحدي , في المقابل الحدي للطرف الذي يعاكسه

وكان لكل اتجاه فلسفته التطرفية الخاصة به , وكل تطرف يصف الطرف الآخر بمنتهى الحدية , مبرئا نفسه من الحدية التي تشمل كيانه كله

وكانت الحرب المشتعلة بين الأطراف جميعها, بين من يحملون السلاح الأبيض والمسدس وربما البندقية , وبين من يملك الصواريخ والمدافع والطائرات

والنتيجة ظاهرة بوضوح أمام الجميع التخلف والتدهور والإ نحطاط في كل شيء

وبزيادة التخلف وغياب العدل , تدهورت الأخلاق وتدهورت القيم , والهدف عند العامة والأكثرية في هذه الحياة هو:

الإستمرار في الحياة بحدها الأدنى فلا هو ميت ولا هو حي

في الغرب يتبنون سياسة التطرف , ويلبسونها للضعفاء , وكان الجاهز لهذا اللباس هم العرب المسلمون .

ولكن مالفرق بين التطرف عندهم , والتطرف عندنا ؟

الفرق أنه لايوجد عندهم تطرف موجه لأممهم , ولا تطرف عند أنظمتهم لقمع شعوبهم والإستبداد والقهر وإلغاء الآخر

بينما التطرف عندنا موجهة سهامه كلها للداخل , من النظام القائم  لأصغر مجموعة في الداخل

و تبنت هذه المجموعات أو بالأحرى التجمعات , مفهوم مطلق لايمكن الرجوع عنه , أو كجلمود صخر حطه السيل من علِ

(الولاء والبراء) , فمن ليس معنا فهو ضدنا , وهي سياسة الأنظمة التي ربت الناس على مدرسة التطرف والولاء والبراء

فالإنسان منا يعيش بين أحجار رحى متعددة كما يصفها الجابري رحمه الله

   الإنسان المعاصر نفسه بين حجري رحى ، يتمثلان في تيارين متعصبين أصبح لهما السيادة في الجدل الجاري على مختلف الساحات، أعنى تيار التطرف العلماني وتيار التطرف الديني، إذ يتصرف التيار الأول وكأن الله غير موجود! بينما يتصرف التيار الثاني وكأن الإنسان غير موجود! بمعنى أنه ينزع من الإنسان كل فاعلياته ومسؤولياته ومواهبه. التيار الأول جعل إلهه المال والقوة والرفاه الاجتماعي، والتيار الثاني يفهم تعاليم الله على أنها تعاليم شكلية حرفية تتعلق بالظواهر أكثر مما تتعلق بالبواطن، ومن ثم حولها من تعاليم للروح والجسد معًا إلى تعاليم للجسد فقط !

ويضاف إليها رحى السلطة والعشيرة وحتى الأسرية منها , وكل ذلك مرده إلى العقل المغلق الذي نحمله في رؤوسنا جميعا , ولا تسامح ولا تقارب ولا لقاء بين الأطراف

فالعقل المغلق سمة كثير من المذاهب والتيارات، وهو المسؤول الأول بعد المصالح الاقتصادية عن الصراع الحضاري، بل هو منشأ الحروب العقائدية التي لا تزال تشتعل بين الحين والآخر، حتى لو كانت تتخفى وراء شعارات أخرى! ومن هنا فإن العودة إلى الموقف القرآني السمح إزاء الحضارات والأديان والتنوع الإنساني باتت أمرًا ملحًا. (محمد عثمان الخشت) جريدة الجمهورية

ولكي نحافظ على وجودنا كأمة , ولها كيانها المستقل المعبر عن وجودها, وتفاعلها المستمر في الحياة ومن أجل الحياة , وتحقيق هدف وجود الإنسان في الأرض ,بتلك السنة الكونية التي جعله الله فيها خليفة في الأرض .

ولن يكون لنا ذلك مالم نؤمن بالعدل , وتحقيق العدل بيننا حتى يتيسر لنا العمل والإستفادة من كل الطاقات , الموجودة على الساحة , أو التي ستوجد غدا

ولعل الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد حاضر بيننا عندما يرفع درجة التسامح  لمكانة أعلى ليقول:

(ومن العدل كما يقول الحكيم ـ أرسطوـ أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه، أعني أن يجهد نفسه في طلب الحجج لخصومه كما يجهد نفسه في طلب الحجج لمذهبه، وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه» لذلك« ينبغي لمن آثر طلب الحق، إذا وجد قولاً شنيعاً ولم يجد مقدمات محمودة تزيل عنه تلك الشنعة، أن لايعتقد أن ذلك القول باطل وأن يطلبه من الطريق الذي زعم المدعي له أنه يوقف منها عليه، ويستعمل في تعلم ذلك من طول الزمان والترتيب)

فعندما نعي حقيقة العدل , ونعي أحقية الآخر في التفكير والوجود ,يتحول الصراع الداخلي وقتها , من الصراع الدموي إلى الصراع البنيوي , ومن الإسراف إلى الإقتصاد , ومن هدر الطاقات إلى تجميعها

ولن يتحقق ذلك إلا بالعدل

والسؤال الأخير هنا:

هل تقبل الأنظمة العربية بالعدل ؟